أفلحت الثورة المضادة في ترتيب صفوفها، وتكاتفت للحيلولة دون أن تبلغ ثورة الشعوب الطامحة إلى التحرر مداها، بل اضطرت القوى الكبرى التي فضلت الاحتلال الناعم عن طريق وكلاء وموظفين أن تعلن عن وقوفها مع الاستبداد، والانحياز إلى الانقلابات العسكرية، على حساب “التجارب الديمقراطية” حفاظا على حكام التبعية الذين يديرون الدول الوظيفية لحسابها، ونجحت آلة الإعلام الموجه في تقبيح صورة الثورة، وربطها بانعدام الأمن وذهاب الاستقرار، وجعلت الشعوب أمام خيار الرضا بالاستبداد، أو الدخول في دوامة الفوضى!
وتكشفت الأحداث وظهر أن الفوضى مدبرة، وأن بث الرعب ونشر الخوف خطة معدة، تدربت عليها الدولة العميقة لمواجهة تطلعات الشعب إلى التغيير، والحق في اختيار الحاكم ومحاسبته ..
وبنظرة متأنية سنجد أن الثورات ليست هي التي شردت السوريين أو أهلكت اليمنيين أو سحقت المصريين، وإنما المال القذر الذي تدفق من حكام السعودية والإمارات على رموز الفساد والاستبداد في دول الربيع العربي، ليمكنوهم من تحويل الربيع إلى جحيم، ويغروهم بإعمال آلة القتل والتنكيل ..
فهم من سارع إلى استقبال زين العابدين بن علي واحتضانه، وحرصوا على عدم المساس بحسني مبارك وأولاده وأعوانه، وهم الذين عالجوا علي عبدالله صالح وأعادوا إنتاج نظامه، وإلى الآن يستثمرون مع أنجاله، وما إقامة أحمد علي عبدالله صالح في أبوظبي بالسر الذي يذاع !
مما جعلنا نعتقد أن عودة الشعوب إلى الثورة على الظلم ورفض الفساد والاستبداد يحتاج إلى وقت وجهد، وإعادة تأهيل، لكن الشعب السوداني فاجأ الجميع، وليس هذا عليه بجديد، فهو أول الشعوب العربية التي رفضت حكم العسكر وثارت عليه!
مع أول انقلاب عسكري وقع في السودان وكان في17 من نوفمبر/تشرين الثاني 1958م، وتسلم على إثره السلطة الفريق إبراهيم عبود، والعجيب أنه أول انقلاب يتم بالتوافق بين رئيس وزراء، ـ وهو عبد الله خليل آنذاك،ـ وقادة الجيش، وكان أشبه بالتنازل عن السلطة ..
فقد كثرت المعارك السياسية بين الأحزاب وتشعبت؛ ويعد هذا الانقلاب بصورته تلك من السوابق التاريخية، واستمر حكم الفريق إبراهيم عبود إلى العام 1964م، إذ ثار شعب السودان علي حكم العسكر وخرجت جموعه الغفيرة تطالب بالرحيل، ولما اطلع الفريق عبود على الحشود، قال: إذا كان كل هؤلاء يرفضونني فلا حاجة لي في البقاء، وتنازل عن الحكم، وانتصرت الثورة بما أكد أن كل السودان “سمح شديد”.
ثم عاد العسكر لحكم السودان مرة أخرى على يد جعفر نميري الذي ثار عليه الشعب أيضا، وانحاز المشير عبد الرحمن سوار الذهب وزير الحربية إلى مطالب الجماهير، وقبل في 1985 أن يتولى مقاليد الحكم لفترة انتقالية، سلم بعدها السلطة إلى حكومة منتخبة بعد عام واحد! ضاربا أروع الأمثلة في الزهد في الحكم، وعدم الاغترار ببريق السلطة، ومؤكدا سماحة السودان من جديد، وأن وباء العسكرية العربية المتمثل في السكر بخمر السلطة، والتشبث بها إلى آخر نفس، لم ينتشر في السودان، ولم يتأثر بعدوى الجيران.
وأدهش السودان العالم كله من جديد من خلال أول ثورة تنظيمية يقوم بها قطاع من الشعب تحت ستار انقلاب عسكري، وهو ما أعد له داهية الحركة الإسلامية، ورمز الإخوان المسلمين في حينها د. حسن الترابي الذي أيقن مبكرا أنه لن يسمح للإسلاميين بالحكم المباشر، أو الوصول المنفرد إلى السلطة، فأعد مجموعة من الطلاب التحقوا بالكليات العسكرية، وترقوا في رتب الجيش وجعلهم واجهة انقلاب عسكري، قوامه من المدنيين الذين أعد لهم لباسا ومركبات تشبه زي الجيش ومعداته. ووقع اختياره على العقيد عمر حسن البشير لأنه أقدم المجموعة، جريانا على عادة العسكر.
وإمعانا في إضفاء صبغة الانقلاب قام البشير حسب الخطة المعدة بسجن رموز الأحزاب والحركات السياسية، وفي مقدمتهم مرشد الثورة د. حسن الترابي، لذا كان النظام المصري أول من بلع الطعم، وأعلن التأييد والمباركة وتبعه الجميع..
لكن نشوة الحكم وعنفوان السلطة، وتحرك الجينات العسكرية في عروق البشير، جعلته ينفذ انقلابا حقيقيا على من أوصله للكرسي، فانقلب على الترابي وسجنه ليحكم منفردا، وسار بالسودان سيرة إخوانه من العساكر، وتدهورت أوضاع البلاد على جميع الأصعدة، وانتهت الحرب مع الانفصاليين بقبول تقسيم السودان وفصل الجنوب، وأصبح الفساد عملا مؤسسيا، والمناصب الحكومية غلبت عليها المجاملات وشراء الولاءات، فأصبحت لأهل الولاء والثقة، وليست لأهل الكفاءة والتخصص.
وعمق من أزمة السودان الحصار المضروب عليه دوليا، والذي يحاول البشير أن يحمله وحده إخفاقات ثلاثة عقود متتالية، حكم فيها السودان منفردا، بل كان يعد نفسه لفترات رئاسية قادمة! لكن يبدو أن صبر الشعوب ينفد عند العام الثلاثين، كما حدث مع مبارك في مصر ومع البشير الآن، لكن المؤسف أنه يكرر نفس كلمات مبارك والقذافي وبن على والتي لا تزيد الناس إلا غضبا، والانتفاضة إلا اشتعالا، إذ خرج على الناس بوعود بحياة أفضل وعيشة كريمة، وكأنه يترشح لحكم السودان لأول مرة؟
بل في خضم المعترك وذروة الأحداث، فعل بنفسه ما لا يفعله به أشد الأعداء الألداء، إذ أعلن عن استمراره إلى آخر جندي سوداني في حرب اليمن تحت القيادة الرشيدة لولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، الذي نجح في تدمير اليمن وفشل في مواجهة الحوثي، أو تقليم أظافر إيران! وفي نفس الوقت قام البشير بزيارة بشار الأسد سفاح الشام، والى إيران على دمشق!
إن الذين يخوفون السودانيين من رفض الظلم ومقاومة الاستبداد، ومكافحة الفساد، ويريدون أن يخلعوا آثار فشل جولاتهم الثورية على الحالة السودانية، لحداثة عهدهم بالثورة، التي لم تكن في أدبياتهم، ولذلك سهل سرقتها منهم..
أما أهل السودان فقد عركتهم الثورات، وصقلتهم التجارب، وخرجوا في كل مرة منتصرين بأقل الخسائر! ثم إن الدموية العسكرية ليست متغلغلة في جنرالات السودان، ولا يزال لديهم الحد الأدنى من نقاء “الزول” وسماحته.
هل السودان على أبواب ثورة ثالثة تعيد للأذهان ما فعله الفريق عبود أو المشير سوار الذهب؟ اللذان ضربا مثالا فريدا في التنازل عن السلطة وترك حرية الاختيار للجماهير، وأظهرا أن السماحة السودانية، أقوى من البلادة العسكرية؟ وهل يكمل الرئيس عمر البشير الضلع الثالث من المثلث ليؤكد من جديد، أن السودان “سمح شديد”
أم أن قادم الأيام يحمل شيئا آخر؟