محمد منير يمثل حالة وحده، حالة من حالات التميز في نسيج المجتمع المصري، وبين كُتابه ومثقفيه، وهي التي كانت تحقق ثراءه وغناه.
عندما عزمت على الكتابة عن الكاتب الصحفي محمد منير “رحمه الله” لم أقصد أن أكتب نعيا له، أو رثاء فيه، فهذا واجب عند فقد الآحاد والأفراد، ومحمد منير يمثل حالة وحده، حالة من حالات التميز في نسيج المجتمع المصري، وبين كُتابه ومثقفيه، وهي التي كانت تحقق ثراءه وغناه.
النماذج المتماثلة صورة باهتة من أصل واحد، ليس فيها جديد، ولا تقبل الإبداع والتجديد، تبدأ وتنتهي ولا يشعر بها أحد إلا في التعداد والأرقام. لكن الشخص المختلف له بصمته التي تميزه، ولا يُحسن إلا أن يكون نفسه، ومُعبرا عن قناعاته وذاته.
هكذا كان محمد منير الذي سيذكره كل من دخل عالم الصحافة، أو من عرف ساحة المعارضة، أو نزل ميدان الثورة، سيجد صدى صوته، وصرير قلمه، وأثره البارز الذي يجعلك تهتف قائلا: هنا كان محمد منير
الثورة بالنسبة له كانت الحلم والأمل، حلم يفسره للناس، وأمل يدعوهم للتمسك بأهدابه، والوقوف على أعتابه.
لذا لم يترك لأحد أن ينعيه، وكتب هو بنفسه النعي الذي يحبه لنفسه: “محمد محمد منير يوسف شارك بصدق في ثورة 25 يناير 2011” .
لم يمارس المعارضة كنزوة عابرة، أو مكايدة في شخص أو نظام، وإنما كانت سلاحه في مجابهة الظلم، وتبديد الظلام، والدفاع عن كل المظلومين وإن اختلف معهم فكريا أو منهجيا، فعرف طريقه إلى السجن شابا، لأنه بدأ المعركة مبكرا، وتكرر اعتقاله، لذا كان يقول: لم أتنازل أو أداهن وأنا شاب، فهل يليق ذلك بمن زينه المشيب؟!
العدل والحرية والكرامة الإنسانية هي المبادئ التي عاش لها محمد منير ونذر نفسه من أجلها، ولم يقبل المساومة عليها، فلم يرهبه التلويح ولا التصريح، حتى لقي ربه غير مفرط ولا مضيع.
مبلغ علمي أنه لم يعارض أحد النظام العسكري من داخل مصر بهذه الجرأة والوضوح، مثل ما فعل محمد منير، وكان يمكنه أن يبقى خارج مصر حيث زار قطر وتركيا، لكن سرعان ما كان يطلب الرجوع إلى مصر، لأن بعض مرهفي الحس تصيبهم فوبيا الغربة، ولا يستطيعون مفارقة الأوطان، دعك عن القاهرة التي تمثل إدمانا من نوع خاص لمن نشأ فيها، وتعلق بشوارعها ومقاهيها كمحمد منير، الذي كان يصف نفسه مازاحا “أنا برميل عواطف“!
كانت السخرية الهادفة أمضى أسلحته، فيضحكك ويبكيك في آن واحد، كما يفعل صنوه وصديق عمره الأستاذ سليم عزوز، لكن محمد منير يكتب بنفس الإبداع أيضا إذا تحدث عن مغامراته مع بناته، أو حفيده “يامن” فيشعرك أنك أصبحت واحدا من الأسرة!
كنت لا أفوت منشوره الصباحي الذي يكتبه بعد صلاة الفجر، عن تأثير الآيات التي قرأها الإمام في الصلاة، وربطها بنسمات الصبح وبركات الفجر، أو الأدعية التي كان يعبر بها عن نفسه، ويخاطب بها مولاه.
ما حدث مع الأستاذ محمد منير جريمة قتل عمد -قتلوه قتلهم الله- حيث تم تهديده بالاعتقال، وترهيبه باقتحام المنزل والعبث بما فيه، لكن كانت ردة فعله أقوى مما يظنون، حيث نشر جريمتهم بالصوت والصورة من خلال ما سجلته كاميرات المراقبة، ولما تكرر تهديدهم “بأنك راجل كبير ومش حمل بهدلة” قال لهم : معنى راجل كبير أني على مقربة من لقاء الله، وهذا إحساس عظيم ليتكم تحسون به، لذا لن أرضيكم على حساب مرضاته ورحمته“.
وبالفعل اعتقلوا الرجل الكبير في سنه ومواقفه، ابن الخامسة والستين الذي يعاني جملة من الأمراض المزمنة، وانتقلت إليه عدوى فيروس كورونا المنتشر بين المعتقلين المكدسين في أماكن تفتقر إلى كل مقومات الحياة، وأعدادهم مقدرة بعشرات الآلاف.
ولما ساءت حالته بادروا بالإفراج عنه دون مقدمات، للتغطية على جريمتهم، ولم يستطع الدخول إلى مستشفى للعلاج نظرا لكثرة الحالات، وانكشاف المنظومة الصحية، حتى تدخل نقيب الصحفيين ومجموعة من زملائه بعد أن ناشدهم على صفحته على فيس بوك، لكن لطف الله به كان أعظم، فلم يَطُل بلاؤه ولا اشتد عناؤه، ولم تضعف عزيمته ولم تلن قناته، فأحسن الله خاتمته، ومات صابرا كريما، كما عاش شجاعا نبيلا.
جمع الله له أجر من صبر على البلاء والوباء، ودرجة من قام إلى حاكم جائر أمره ونهاه فقتله.
وأسأل الله له أجر الصابرين، ودرجة الشهداء الصادقين، إنه بكل جميل كفيل.