من عجائب الأيام أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه استشهد في السابع عشر من رمضان، وهو اليوم نفسه الذي انتصر فيه المسلمون في غزوة بدر، واستشهد ولده الإمام الحسين في العاشر من محرم ذكرى يوم عاشوراء، الذي نجى الله فيه موسى ومن معه، وأهلك فرعون ومن معه.
اتخذ الشيعة الروافض من يوم عاشوراء عيدا للطم الخدود وشق الجيوب ودعوى الجاهلية، وجعلوا السبط الشهيد عنوان دعوتهم ورمز عقيدتهم، وسيطروا على الحديث عنه واحتكار سيرته، وترك المسلمون لهم ذلك خوفا وغفلة، حتى سألت نفسي هل سمعت خطبة أو درسا عن الإمام الحسين ومآثره؟ بل سألت بعض إخواني عن انطباعه الأول لو دخل مسجدا ووجد الخطيب يتحدث عن الحسين بن علي رضي الله عنهما ويشرح سيرته؟ فقالوا: ربما نشك في تشيع الإمام، أو تغيير مذهبه!
وهكذا استطاع الشيعة أن يحتكروا ذكر الحسين وجعلوه أيقونة فكرتهم، وساعد في نجاحهم في ذلك ارتباط اسم السبط الشهيد بالثورة على الظلم ومنابذة الظالمين، ورفض المتابعة على الباطل والسعي في تغيير المنكر وإحقاق الحق، وهذه الصفحة من التاريخ يراد لها أن تطوى وتنسى، لاسيما مع حساسية حكام الجور من الحديث عن الثورة وأهلها، وظهور كتيبة من دعاة السلطة يرفعون الحاكم إلى منزلة من لا يُسأل عما يفعل، حتى لو فعل الفاحشة أمام الناس أو على الهواء مباشرة، ويعتبرون كل امتعاض أو اعتراض هو خروج عن طاعة ولي الأمر، في صورة من الانحلال والزندقة قدمتها فصائل الجامية والمدخلية تحت غطاء السلفية التي هي منهم براء.
وغدت سيرة الحسين الإمام الثائر ومسيرته، لا تذكر في محيط المسلمين إلا من منظور سدنة الظلم ورعاة البغي، من خلال غمز قناته والتشكيك في خروجه، وإظهاره في صورة المتمرد أو الخارج عن الصف، وحقيقة الأمر بخلاف ذلك تماما، بل كان من يومه الأول على الحق الواضح والمحجة البيضاء، ولم يتنكب طريق المصلحين، أو يخالف سبيل المؤمنين، وإنما أخذ على عاتقه الدفاع عن ثوابت الإسلام، وصيانة الأسس التي وضعها لنظام الحكم، ورفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عندما طُلبت البيعة ليزيد بن معاوية كولي عهد في حياة أبيه ليتسلم الحكم من بعده، وبذلك يُلغى نظام الشورى في اختيار الحاكم، ويحل محلها نظام الحكم الوراثي، في تغيير واضح لآلية اختيار الحاكم في الإسلام، وتعدٍ سافر على حق الأمة في الاختيار، وظل الحسين رافضا لذلك حتى تولى يزيد بن معاوية، فرفض بيعته والتسليم له بالخلافة.
هذا الرفض كان موقف الجميع ممن بقي من كبار الصحابة ورموز الأمة، لكن تباينت ردود أفعالهم تجاه الأمر فمنهم من رأى المتابعة حرصا على الوحدة والجماعة، ومنهم من رفض البيعة دون أن يعلن العصيان انتظارا للإعداد والفرصة المواتية كعبد الله بن الزبير، والذي آلت إليه الخلافة بالفعل بعد معاوية بن يزيد بن معاوية الذي حكم بضعة أشهر.
لكن الإمام الحسين أعلن موقفه الرافض لبيعة يزيد والتف حوله كل من يرى ذلك، وجاءته مكاتبات موقعة من أهل العراق تؤيد موقفه، وتؤكد على مناصرته فيما سيقدم عليه، وهنا خالفه الصحابة ونصحوه بأن خطوة تغيير المنكر باليد، والخروج المسلح على يزيد محفوفة بالمخاطر، وغير مأمونة العواقب، وحذره بعضهم من أهل العراق كابن عباس الذي قال له: إنما دعوك للفتنة والقتل، وطالبه ابن الزبير بالتحصن بمكة والبقاء فيها وقال: أتذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!
وهنا يحدث خلط متعمد بين رفض الصحابة لخروج الحسين لاعتبارات التجهيز وحسابات النصر والهزيمة، وبين رأيهم في رفض نظام الحكم العائلي الوارثي، وتغيير نظام الخلافة الإسلامي، وأن من قبل منهم إنما رضي بمفسدة أقل خوفا من وقوع مفسدة أكبر، ولذا عبر ابن خلدون عن خطأ تقديرات الحسين العسكرية بالخطأ الدنيوي فقال: وهو خطأ دنيوي لا يضره الغلط فيه، لأنه منوط بظنه لكنه لم يغلط شرعا. (أي في رفض البيعة، والسعي لتغيير المنكر)
والحقيقة أن الإمام الحسين لما استشعر خذلان أهل العراق، وأن الحسابات تغيرت على الأرض، غير خطته وخير عبيدالله بن زياد قائد جيش يزيد في تركه للرجوع إلى مكة، أو الذهاب بمن معه للقتال في ثغر من ثغور الجهاد، أو أن يخلي بينه وبين لقاء يزيد في الشام، لكن حَرص ابن زياد ومن معه من رعاة الفتنة على رفض ذلك كله، وطلبوا منه أن يسلم نفسه لابن زياد ويستأسر له، وهو ما لا تقبله نفس حر، ناهيك عن صاحب النفس الزكية والأرومة العلية، ونشب القتال ونكلوا بالحسين ومن معه، وحزوا رأسه وحملوه إلى الشام، ليلتحق بركب الشهداء ويصبح مع أخيه الحسن سيدي شباب أهل الجنة، وهو أولى بقول أبي تمام حين قال:
فَتىً ماتَ بَينَ الضَربِ وَالطَعنِ ميتَةً
تَقومُ مَقامَ النَصرِ إِذ فاتَهُ النَصرُ
وَما ماتَ حَتّى ماتَ مَضرِبُ سَيفِهِ
مِنَ الضَربِ وَاِعتَلَّت عَلَيهِ القَنا السُمرُ
وَقَد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ
إِلَيهِ الحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ
تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما أَتى
لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
غداً غَدوَةً وَالحَمدُ نَسجُ رِدائِهِ
فَلَم يَنصَرِف إِلّا وَأَكفانُهُ الأَجرُ
مَضى طاهِرَ الأَثوابِ لَم تَبقَ رَوضَةٌ
غَداةَ ثَوى إِلّا اِشتَهَت أَنَّها قَبرُ.
وأجمل شيخ الإسلام ابن تيمية قصته بقوله: الحسين بن علي لم يفارق الجماعة، ولم يُقتل إلا وهو يطلب الرجوع أو الثغور، ولو طلب ذلك من هو أقل منه لأجيب إليه، ولم يقاتل وهو يطلب الولاية، وإنما كان يطلب الانصراف، وهو يدفع الأسر عن نفسه.
إن خذلان الحسين بدأ في يوم كربلاء واستمر إلى يوم الناس هذا، وشارك فيه كل من تعمد إخفاء حقيقة جهاده واستشهاده، ولم يبق لهم إلا الرضا بفعل ابن زياد ليصبحوا شركاء في الجريمة.
الحسين بن علي سبط النبي صلى الله عليه وسلم وريحانته، نموذج فريد للأمام الثائر والعالم العامل، وتجربة غنية بالعظات والعبر، ودرس جيد في التعامل مع بطش الدولة، واختيار الأنصار والأعوان، وأن حسن القصد، ونبل الغاية، وعدالة القضية وشرعيتها، لا يضمن ذلك نصرا ولا يحقق هدفا، مالم توضع الخطة اللازمة، ويؤخذ بأسباب الإعداد الكاملة، وحسن اختيار زمان ومكان المعركة.
لكن لولا موقف الحسين الواضح من رعاية الثوابت، والحفاظ على المبادئ، والثورة من أجل ذلك، لقيل إن الإسلام في جيل مبكر ضاعت فيه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلنسترد سيرة الحسين ممن خذلوه أولا، وسرقوا تاريخه بعد ذلك، ولنعلن عن محبتنا له فقد أحب الله من أحب حسينا.
روى ابن ماجه في صحيحه عن يعلى بن مرة الثقفي أنهم خرجوا مع رسول الله إلى طعام دعوا له، فإذا حُسَيْنٌ يلعَبُ في السِّكَّةِ، قالَ: فتقدَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أمامَ القومِ، وبَسطَ يديهِ، فجعلَ الغلامُ يفِرُّ ها هُنا وَها هُنا، ويضاحِكُهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حتَّى أخذَهُ، فجعلَ إحدى يديهِ تحتَ ذقنِهِ، والأخرى في فأسِ رأسِهِ فقبَّلَهُ وقالَ: حُسَيْنٌ منِّي، وأَنا مِن حُسَيْنٍ، أحبَّ اللَّهُ من أحبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سبطٌ منَ الأسباطِ”.