ارتضت فرنسا لنفسها أن ترفع سقف الحريات، إلى حد السخرية من الأنبياء والمقدسات، ودافع الرئيس الفرنسي ماكرون عن ذلك وحرض عليه، معتبرا السخرية من قيم الجمهورية الفرنسية!
وعندما أعلن المسلمون استياءهم من التعرض لدينهم، ومن التطاول على مقام نبيهم المكرم ﷺ، وقرروا مقاطعة منتجات فرنسا من باب أضعف الإيمان، وأدنى درجات النكير والاستهجان، ضجت فرنسا من ذلك ولم تعتبره من باب حرية الاختيار، بل طالبت رسميا بخطاب ملؤه التعالي والغطرسة بالتوقف عن المقاطعة، واعتبرتها حملة من قلة متطرفة، وسارع في هواها إعلام دول الثورة المضادة، جاهدين في بث الشبه والشائعات، حول شرعية المقاطعة والتشكيك في فاعليتها وجدواها، مع أن هذه الدول تحاصر شقيقتها قطر منذ ثلاث سنوات، وتستخدم معها سلاح المقاطعة البحرية والبرية والاقتصادية والإنسانية، وهذا الإعلام نفسه تبنى قبل أزمة فرنسا الحالية دعوى مقاطعة منتجات تركيا، ومازال ينفخ في كيرها ويلهب سعيرها !
وفي هذا أبلغ الرد على تقليلهم من تأثير المقاطعة التي لسنا أول من استخدمها أو دعا إليها، فقد نجح سلاح المقاطعة في مساعدة شعوب عدة في طريق نضالها للتحرر من الاستعمار الأجنبي والتدخلات الخارجية وتحقيق الاستقلال، فقد ساعدت المقاطعة الواسعة للسلع والمنتجات البريطانية الشعب الهندي على وضع نهاية للاحتلال البريطاني، وساعدت المقاطعة الاقتصادية لمنتجات شركات رجال الأعمال البيض في إنهاء سياسة الفصل العنصري المقيتة في جنوب أفريقيا بعد سنوات طويلة من الظلم والقهر الذي تعرض له غالبية السكان السود، بل تعاطف مع الحملة العديد من المستهلكين حول العالم ورفضوا شراء السلع والمنتجات الآتية من جنوب أفريقيا في حينها، ونجحت المقاطعة في المساعدة على القضاء على سياسة الفصل بين السود والبيض بل وصل زعيم السود نيلسون مانديلا إلى سدة الحكم .
لكن دعاة السوء وعلماء السلطان وخدم البلاط كانت فتواهم حاضرة وتخذيلهم واضح حيث بدأوا بالتشكيك في جواز المقاطعة شرعا، مع أن حديث إسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة يلجم الجامية، ويدخل المدخلية جحر الضب، عن أبي هُرَيْرَةَ قَال: بَعَثَ النبي ﷺ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ فَقَالَ:” مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟”
فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ! إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ وكرر ذلك عليه ثلاثا وهو يقول: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ!
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم “أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ”
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ! يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى الأرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَالله مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَالله مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ. وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟
فَبَشَّرَهُ رَسُولُ الله(ﷺ)وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟! قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله، وَلا، وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النبي ﷺ.”
ولما سقطت فريتهم في أول الطريق، لجأوا للطواف حول صنم ولي الأمر، وأن المقاطعة من اختصاصه وحده، وأجيب عن هذا: بأن العلماء من ولاة الأمر، فإِذا قاموا بما عجز عنه حاكم أو قصر فيه من فروض الكفايات فقد أحسنوا، فكيف إذا كان الواجب الذي وقع فيه الخلل هو الدفاع عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو من فروض الأعيان؟!
وعدم إذن ولي الأمر أو عدم أمره بمقاطعة البضائع الفرنسية لا يجعل المقاطعة ممنوعة شرعا، كما أن إذنه ببيع المحرمات كالخمر، وتيسير الربا والميسر وغير ذلك من الموبقات لا يبيحها ولا يحلها لمسلم.
ثم ظهرت شبهة لقيطة لا يعرف لها أب، ولا تنتسب إلى أحد، تحض على تجاهل الأمر برمته، وعدم الرد على ماكرون أو مقاطعة بضاعته، من باب أميتوا الباطل بعدم ذكره، وهذا القول يصلح مع ذنوب الخلوات أو فجور الأفراد، أما أن يتعلق الأمر بمقام النبي المكرم ﷺ وتستعر حملة من ورائها دولة ويتبناها رئيس، فلا ينكل عن مواجهتم إلا خسيس، ولا يتأخر عن النصرة إلا جبان رخيص، وقد تعرض جهلاء الجاهلية لمقام خير البرية فرد عليهم شعراء رسول الله (ﷺ) ولم يسكتوا عنهم، وسَرّ ذلك رسول الله منهم وقال لحسان بن ثابت “اهجهم وروح القدس معك.”
يحدث هذا التخويف والتخذيل في الوقت الذي تداعت فيه دول أوربا لمؤازرة فرنسا في حملتها الظالمة، والوقوف مع خطاب ماكرون العنصري البغيض، بل تبنى هذا الخطاب ولم يرع حق الجوار رجل الأعمال نجيب ساويرس المعروف بأرائه المتطرفة وانحيازه الطائفي، حيث كتب على حسابه الرسمي، عن ضرورة التخلص من الرئيس التركي، ويعتبر توقيت هذا الإعلان، قمة التضامن مع ماكرون في إساءته للإسلام، لأن رئيس تركيا أول من تصدى لعنصرية الخطاب الرائج فرنسيا الآن، وهو نفس الخطاب الذي يؤمن به ساويرس ويتبناه.
دعوة التخلص من الرئيس أردوغان تعد جنائيا دعوة للقتل، وسياسيا دعوة للانقلاب العسكري، وكلاهما جريمة تعاقب عليها كل الشرائع وكافة القوانين، حتى “تويتر” الذي يمنع خطاب الكراهية والتحريض على العنف مررها للخواجة “نجيب” لأن كلامه يتناغم مع حملة ماكرون النازية.
لم يكن ساويرس أول الراسبين في اختبار حسن الجوار والتعايش بين الأديان، بل سقطت قبله الديانة الإبراهيمية ورعاتها، وظهر أن ما تقوم به الإمارات وإخوانها في الدين الجديد، من صلوات مشتركة ودعوات متحدة، هو مجرد طلاء خارجي للتغطية على الخروج من مظلة الإسلام، فلم نسمع لهم ركزا في الإساءة إلى نبي كريم هو حفيد إبراهيم الخليل!