الحملات الإعلامية على الأزهر الشريف وشيوخه، بدا واضحا للعيان أنها خطة مدروسة وممنهجة، حيث تظهر في توقيتات معينة وتستخدم أساليب مختلفة، وآخرها المسلسل التلفزيوني الذي يعرض في رمضان باسم “فاتن أمل حربي” ويتناول بعض القضايا الشرعية الخاصة بالمرأة وفقه الأسرة، من وجهة نظر كاتب القصة، الصحفي المثير للجدل إبراهيم عيسى، الذي دأب على التعرض للثوابت، والطعن في الأحكام الشرعية والسنة النبوية. وكان آخر ذلك استخفافه بفريضة الصيام خلال الشهر المبارك، الذي دأب غير المسلمين على احترامه وإظهار البهجة بقدومه مشاركة لمشاعر المسلمين.
والشيء من معدنه لا يستغرب، فمن يتابع كتابات إبراهيم عيسى ولقاءاته، ولا سيما التي تُبَثّ على قناة الحرة الأمريكية، يدرك بلا عناء أن الرجل تجاوز محاولة الفهم إلى مرحلة الهدم، وفكرة النقد إلى النقض، من خلال تقديم صورة مسخ جديد، لا ينتمي إلى ما جاء به رسول الله ﷺ، أو ما نزل في الكتاب المجيد، وسبق له ذلك في أعمال فنية أخرى منها أفلامه الثلاثة “مولانا” في سنة 2017، و”الضيف” في 2019، و”صاحب المقام” في 2020، وقريبًا سيطرح فيلمه الجديد “الملحد”، وكلها تجسيد للمروق وتجاوز الحدود، وتفتح بابا كبيرا للزندقة، ومعظمها يعتمد على الوعظ المباشر على لسان شخصيات العمل، للتسويق لمعتقدات فاسدة، وآراء كاسدة.
تنمّر مستنكر
وجاء رد الأزهر الشريف على ذلك واضحا وقويا في بيان جاء فيه: “إن تعمُّد تقديم عالِم الدّين الإسلامي بعمامته الأزهرية البيضاء في صورة الجاهل الإمّعة، المعدوم المروءة، الدنيء النفس، العَيِيّ اللسان -في بعض الأعمال الفنية- تنمُّرٌ مُستنكَر، وتشويه مقصود مرفوض، ولا يتناسب وتوقير شعب مصر العظيم لعلماء الدين ورجاله، وإن الشحن السلبي المُمنهج في بعض الأعمال الفنية تجاه الدين وتشويه المفاهيم الدينية والقِيم الأخلاقية، بهدف إثارة الجدل وزيادة الشهرة والمُشاهدات، نذير خطر يؤذن بتطرف بغيض ويهدّد الأمن الفكري والسِّلم المجتمعي واستقامته”.
وانتقد بيان الأزهر بقوة التستُّر خلف لافتات حقوق المرأة لتقسيم المجتمع، وتصوير بعض الأفراد للتراث الإسلامي على أنه عدوٌّ للمرأة، وأكد أن استخدام الإعلام والدراما لتشويه هذا التراث فكرٌ خبيث مغرض، ويستهدف تنحية الدين جانبا عن حياة الإنسان وتقزيم دوره، ويدعو إلى استيراد أفكار غربية دخيلة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بهدف تذويب هويتها وطمس معالمها.
وبعد هذا البيان ثمة ثلاث نقاط مهمة تكتمل بها الصورة:
أولا: أن هذا المسلسل ليس عملا يمثل أصحابه فقط، وإنما أعلن النظام رضاه عنه ومباركته له، فمنذ الحلقات الأولى للمسلسل، أظهر المجلس القومي للمرأة (وهو جهة حكومية)، حفاوته به في بيان على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك، مؤكدا دعمه له وثناءه عليه، وكذلك المجلس الأعلى للإعلام الذي يقوم بدور الرقيب على كل ما يذاع في القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية المصرية، وخلال شهر شباط/ فبراير أوقف ثلاثة من مقدمي البرامج أحدهم بالقناة الأولى للتلفزيون الحكومي، بدعوى النيل من بعض الشخصيات أو الأندية الرياضية، أو غيرها من الأسباب التي تعد أقل بكثير مما يطرحه عمل إبراهيم عيسى في حق الأزهر وعلمائه.
ثانيا: كان شهر رمضان على ما يعج به من أعمال درامية مختلفة، فرصة لظهور بعض الأعمال الدينية والتاريخية، وانتهت هذه المساحة في الآونة الأخيرة، بل أصبحت العواصم العربية تتبارى في تقديم الأعمال التي تتعرض للأحكام الشرعية، وتحرص على انتقاص العلماء وازدراء الدعاة، والربط بينهم وبين الغلوّ والتطرف، وفي المقابل نجد الدراما التركية تحيي تاريخها، وتمجد رموز الفتح والعلم فيها، وترسل رسائل هادفة تخدم قضاياها في كل أعمالها.
ثالثا: أحدث بيان الأزهر الشريف ردًّا قويًّا، ولا سيما في الأوساط الإعلامية، مما جعل بعض من شارك في العمل يعتذر بأن د. سعد الهلالي الأستاذ بالأزهر راجعه، وخرج يفاخر بذلك ويقول: “راجعته كلمة كلمة، ووافقت على ما جاء فيه!”.
ولست أدرى أين أدوات المؤسسة الأزهرية الرقابية والتأديبية تجاه من يعملون فيها أو ينتسبون إليها، وكيف تسمح للهلالي بذلك، ويمر الأمر دون مساءلة؟ ولا سيما وقد أثبت مجمع البحوث الإسلامية قبل ذلك انحرافه عند التعليق على بعض إنتاج الهلالي المعروض على المجمع، وجاء نص التعليق: في هذه المسائل ضلال وانحراف!
لكن يبقى الانحراف الأخطر -الذي ليس له سابقة- هو محاولة تشويه صورة علماء الأزهر، والنيل من هذه المؤسسة العريقة التي تمثل الجانب الأكبر من تاريخ مصر العلمي والحضاري، وأبهى صور تراثها الفكري والنضالي.