إدريس غانا.. وجدري القرود
مايو 21, 2022بين شيرين أبو عاقلة وغفران وراسنة
يونيو 4, 2022مَثَّلَ فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك حالة فريدة، وظاهرة جديدة، في عالم الدعوة والخطابة، وجعل خطبة الجمعة خطاب توجيه للجماهير في قضاياهم الكبرى، يصدع بما ينبغي أن يصل إليهم من وقائع وأحداث، ويدق نواقيس الخطر إزاء ما يهدد الأمة في دينها وآدابها، لذا لم يكن خطابه محليا أو قطريا، وهذا أهم أسباب صدامه مع النظام الحاكم، لأنه كثيرا ما يوجه خطبه إلى رئيس أو حاكم في بلاد المسلمين، أتى أمرا أو فعل ما يستحق الوقوف عنده والتنبيه إليه.
ولذلك كانت خطب الشيخ كشك تصل إلى كثير من الدول العربية في نفس الأسبوع، وتنسخ منها آلاف النسخ في عصر ثورة أشرطة الكاسيت، التي نقلت صوت الشيخ كشك إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكان الشيخ -رحمه الله- أبرز نجوم هذه الوسيلة المتربعة على عرش وسائل التواصل في حينها، ولاحظت أثناء إقامتي في أوربا أن جيل المهاجرين الأوائل، كانوا يتابعون أخبار الأمة الإسلامية من خلال خطب الشيخ عبد الحميد، وذكر لي غير واحد منهم أن توبته من المعاصي وأوبته للإسلام، كانت عن طريق خطب الشيخ ودروسه!
كشك المغرب والإسكندرية والخليج
وإن مُنع الشيخ كشك من الخطابة، وحرمت المساجد من فارس المنابر والبحر الهادر، فإنه كان قد أسس مدرسة الخطيب الثائر، التي كانت صوت المقهورين، وسوطا على ظهور المجرمين، يصدع بالحق غير هياب ولا وجل، يدافع عن المظلومين ويكافح الظالمين، ويراغم الطواغيت والمتجبرين، وحمل لواء هذه المدرسة وسار على منوالها أعلام في أقطار شتى، جمع كل واحد منهم بين النسبة إلى المدرسة والنسبة إلى بلده وموطنه، فمثلا لُقب الشيخ وجدي غنيم بكشك الإسكندرية، والشيخ عبد الله النهاري بكشك المغرب، وفضيلة الشيخ أحمد القطان -الذي فارقنا منذ أيام- بكشك الخليج.
فقد استطاع الشيخ القطان من منابر الكويت، ومن خلال الوسيلة نفسها (الكاسيت) أن يملأ مساحة كبيرة من الفراغ الذي تركه ناظر المدرسة وإمامها، ولاسيما أنه قد تميز بالتركيز على قضية المسلمين المركزية، قضية الأقصى والمسرى، حتى لقب بخطيب منبر الأقصى. وبالفعل كان منبرا متحركا للقدس في كل مكان، وحقق حكمة السلف الأوائل “من لزم شيئا عرف به”، وأكبر دليل على ذلك أن خبر وفاة الشيخ -رحمه الله- اقترن بالحديث عن القدس وفلسطين، ودوره في الحض والتذكير.
كما تميز الشيخ القطان بلغة خطابية عالية، وأسلوب سهل فصيح، يصل للعامة ويطرب له الخواص، مع حس أدبي رفيع، وتطويع للإنشاد والقريض بديع، يلهب الحماس ويقرب الفكرة، ولعل هذه الطريقة وكون المسجد الأقصى محل إجماع من أهم ما مكن الشيخ من حظ وافر من هذا الاتفاق، حيث أصبح صوته في كل بيت وخطبه أول ما يقدمه شباب الدعوة من وسائل الترغيب والهداية، وأصبحت جمله وعباراته من أبرز سمات جيل الصحوة الإسلامية في العقود الثلاثة الماضية، ولو أتيح لكل واحد من أبناء الدعوة الإسلامية في هذه الحقبة، أن يتحدث لوجدنا عنده ما يذكره من ذكرياته الخاصة مع الشيخ القطان، وما جاء في رثاء المشاهير له خير دليل، وكنت واحدا من الجيل الذي تربى على خطبه، وتأثر بطريقته وتمنى رؤيته، وتحقق ذلك الصيف الفائت مع صحبة كرام.
جلسة مع الشيخ القطان
حظيت بجلسة مطولة معه، فرأيت فيه تواضع الكبار، والحرص على شغل المجلس بالمفيد النافع، في تسلسل ينساب كالماء البارد لذي الغلة الصادي، وقد طوف بنا حول كثير من العلوم والفنون، ولاسيما تجارب الحياة التي هي نخبة الفكر وخلاصة الدهر، وبقيت شهورا بعد اللقاء تنتابني قشعريرة كلما تذكرت كلامه عن بره بأبيه وأمه، على مثال ينافس ما فعله السلف القدامى، وربما تقدم على بعض نماذجهم، وقصته مع بر والده مشهورة ومنشورة على وسائل التواصل، أما التأثّر الأكبر فكان بموقف من مواقفه في بر أمه، حيث ذكر أنها كانت قد تقدمت في العمر، وتعاني من الأمراض التي تلازم كبار السن، وفي يوم بارد دخل عليها فوجد رجلها احتبس عنها جريان الدم من شدة البرد، فأكب على القدم يدلكه ويقبله، ثم فاجأنا بقوله: ومع تقبيل قدم أمي، هُديت إلى طريقة أسرع لوصول الدفء إلى أطرفها، فوضعت مقدمة قدمها في فمي، وأطبقت عليه حتى سرى الدم واستراحت…
والدرس الأخير كان في وفاة الشيخ، وكأنه يأبى إلا أن يعلمنا على كل حال، حيث لهجت الألسنة، وعج الفضاء بالدعاء له والثناء عليه، فقلت هنيئا لمن عاش داعيا إلى الله، ومدافعا عن مسرى رسوله ﷺ، وطوبى لمن سلك دربه وعاش على طريقته.