قصدت مطار إسطنبول متجهًا إلى مدينة ماردين جنوب شرقي تركيا تلبية لدعوة جامعتها في صحبة وفد من علماء المسلمين من عدة دول عربية، وما إن غادرت الطائرة سماء إسطنبول حتى توجه إليَّ فضيلة الشيخ عبد الحي يوسف -من علماء السودان- بالسؤال عن أحوال فضيلة الإمام يوسف القرضاوي، فذكرت طرفًا مما أعرفه عن صحته، وتحدثنا عن بعض مناقبه ومآثره، ثم انخرطنا في دعاء طويل له بحسن الخاتمة، وأن يجعل الله له من لطفه وعافيته النصيب الأكبر والحظ الأوفر.
وبعد وقت قصير من وصولنا إلى جامعة ماردين، جاءنا خبر وفاة شيخنا الإمام والتحاقه بالرفيق اللطيف، فعدت إلى إسطنبول أملًا في إدراك جنازته والصلاة عليه، وبدأت تسجيل هذه الخواطر وأنا في الطائرة المتجهة إلى الدوحة، وتختلط في نفسي جملة من المشاعر التي يصعب التعبير عنها في نسق واحد، لا سيما وأن مقالي قبل الأخير على هذه النافذة كان عن فضيلة الشيخ القرضاوي ومكانته، التي يصعب أن تُملأ بعده.
الريادة الاجتماعية
كانت ريادة الشيخ القرضاوي الاجتماعية لا تقل عن ريادته العلمية والفكرية، ومن القليل النادر أن يحوز إنسان قصب السبق في الحالين، لأن أداء الواجبات الاجتماعية يأتي على حساب الإنجازات العلمية، لا سيما عند أصحاب المشاريع الكبيرة، فمن يقوى على كتابة 100 مجلد، وتأسيس المعاهد العلمية والكليات الشرعية، والاتحادات العلمائية والمجامع الفقهية، ثم يملأ الدنيا حركة ودعوة، ويزور معظم بلاد العالم حتى لُقب بالفقيه الطائر، ثم هو مع ذلك لا يترك تهنئة أو تعزية، وله مجلس عامر، يقصده كل زائر، ويجتمع فيه أصحاب الحاجات من شتى الاتجاهات، ثم لا يفوّت الأعياد والمناسبات، فيجمع فيها التلاميذ والأحباب، مضيفًا جوًّا من الأبوة الحانية والأخوة الصادقة. ومع ظهور حفاوته بالمبرزين من تلاميذه أمثال الشيخ سلمان العودة وأبي الوليد خالد مشعل -كنت ألحظ لهما مكانة خاصة- إلا أنه يخص كل واحد من الحضور بتحية معينة أو نداء خاص، كما كان يفعل مع الأستاذ سليم عزوز.
في المستشفى
ما من مرة رافقت الشيخ فيها -وهذا من باب تكبيره بالصغير- إلا وأفدت ما أعده مما عوضني الله به عن مفارقة الأهل وغربة الوطن.
فكنت من الوفد الذي رافقه في زيارة غزة عام 2013، ورأيناه بين أهلها أبًا بين أولاده ومُعلمًا بين تلاميذه، ولا أنسى يوم قال له أحد كبار المجاهدين “يا فضيلة الشيخ، لقد كتبت فقه الجهاد في ألفي صفحة، ونحن سطرناها في الميدان، وإن كلماتك ومؤلفاتك في آذاننا ومعسكراتنا، ونحن على العهد وشركاء في الأجر”.
أخبرته يومًا بقدوم أحد كبار العلماء للاستشفاء في مستشفى حمد، وطلبت موعدًا لعيادته، وأنا أعرف كثرة مشاغله ومواعيده، وإذا به يقول لي “نزوره الآن، هذا واجب لا يؤخَّر”، وأنا أدفع به الكرسي المتحرك، وقبل مسافة طويلة من الوصول إلى الغرفة، أصر على النزول ليكمل ماشيًا، ويقول: دعني أمشي إلى أخي، فالأثر يقول “من مشى إلى أخيه”.
الصوم مع المشقة
وهذا من الجوانب غير المشهورة في شخصية فضيلة الشيخ القرضاوي، إذ كان يُلزم نفسه الأكمل، ويسعى إلى الأفضل، مع أنه صاحب قاعدة التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة. وأذكر أني زرته مع د. محمد يسري في رمضان الذي قبل انتشار كورونا، فوجدناه صائمًا ومجهدًا، فقلت له: لماذا لا تفطر يا مولانا؟ فقال “أنا أصوم الشهر من أكثر من سبعين سنة، وأحب أن ألقى الله على ذلك”، فقال له د. محمد يسري: ولكني أعرف عالمًا لو رآك لأفتاك بالفطر، فقال “من هذا؟”.
فقال له: إنه فضيلة الشيخ القرضاوي صاحب فقه التيسير، فضحك وقال “نسأل الله أن يعيننا”، وكان للشيخ محمد يسري مكانة كبيرة عنده، وما اجتمعنا إلا ويطلب منه كلمة أو حديثًا، فيعتذر، فسألته عن السبب، فقال: لا أرى أن أتحدث بين يديه، وغيّر سياق الخطاب من الشيخ إلى نفسه قائلًا: ما دمت حيًّا لن أتكلم في حضوره، ولم يقل ما دام حيًّا، وهي جملة في باب العلم والأدب تعني الكثير.
الأمل في أن تنصفه الأمة
كتبت مرارًا عن شيخنا القرضاوي في حياته، أملًا في أن تنصفه الأمة، وتعطيه بعض حقه عن بعض عطائه، وإن حدث هذا من دول أو مؤسسات، فإن له حقًّا على الأمة التي بذل عمره وعلمه في سبيل نهضتها، ولم يغب عن يوم من أيامها أو حدث من أحداثها، فكان إمام القرن وعالم الأمة، ولعلها تدرك ما فات الآن، لأن بالموت تنتهي العداوات، ويختفي حظ النفس. رفع الله درجته في عليين، وأخلف الأمة خيرًا، ونفع بعلومه المسلمين.