كانت روح الثورة ورفض الظلم هي الروح السائدة بين أروقة الأزهر الشريف، وتسري في نفوس شيوخه وطلابه، وبقيت أمانة يتركها السابق للاحق، حتى أُمم دور الأزهر ضمن سياسة التأميم الشامل بعد تولي الضباط الحكم في عام 1952، وبقيت روح الثورة يحملها من كل جيل عدوله ورموزه، أولئك الذين استطاعوا أن يحافظوا على بقاء جذوتها واستمرار حرارتها، وتمكنوا -بما مَنَّ الله عليهم من مواهب- من ملء الفراغ الكبير، الذي أريد من خلاله القضاء على دور الجامع العتيق. وظهرت خلال تلك الحقبة ما سميته “مدرسة الأزهري الثائر” أولئك الذين رفعوا راية الثورة في وجه الظالم، ورابطوا على حراسة بوابة الإسلام وحماية حدوده، واشتهر من هؤلاء الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد الحميد كشك والشيخ عبد الرشيد صقر والشيخ عمر عبد الرحمن والشيخ أحمد المحلاوي.
ومن يعرف هؤلاء الأعلام عن قرب، يدرك أنهم نماذج فكرية مختلفة، ومجال عطاءاتهم متنوعة، وبينهم تباين في استخدام الوسائل في إطار “كلٌّ مُيسَّر لما خُلق له”، لكن يبقى رباط الثورة ومظلة الأزهر هما القاسم المشترك بين الجميع.
والشيخ المحلاوي آخر من انتقل إلى جوار ربه من هذه الثلة المباركة، في العاشر من مارس/آذار الحالي، وفي آخر أيام شعبان من عام 1445هـ.
وبالتاريخ الهجري يكون فضيلة الشيخ أحمد المحلاوي أتم 100 سنة من الكفاح والنضال.
مسيرة الشيخ
وُلد أحمد عبد السلام المحلاوي يوم 1 يوليو/تموز 1925 في قرية عزبة المحلاوي بمحافظة كفر الشيخ، وأتم حفظ القرآن الكريم في كُتاب قريته، ثم التحق بالدراسة الأزهرية بمعهد طنطا، ومنها إلى كلية الشريعة بالقاهرة.
وحصل على الإجازة العالية من كلية الشريعة الإسلامية عام 1954، ثم نال درجة التخصص من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1956، وعُيّن بعدها إماما وخطيبا بمسجد السطوحي بمدينة البرلس في محافظة كفر الشيخ عام 1957.
وفي عام 1963، صدر قرار من وزارة الأوقاف بنقل الشيخ المحلاوي لإمامة مسجد سيدي جابر بمحافظة الإسكندرية، لكن دور الشيخ لم يقتصر على المسجد، بل خرج بالدعوة إلى المدارس والجامعات، وكان من رواد فكرة إنشاء فصول التقوية الدراسية بالمسجد لطلاب الثانوي ثم الجامعة، وكان لهذا صدى واسع وأثر ملموس عند الأسر، التي أثقل كاهلها مصاريف التعليم والدروس الخاصة، وتسابق المدرسون والأساتذة إلى التطوع في هذا العمل الجليل.
ثم أسس الشيخ المحلاوي جمعية “علماء المساجد بالإسكندرية” التي انتقلت بالعمل الإسلامي من المسجد إلى الشارع، لتوسيع دور المسجد وملحقاته، حتى تلبي متطلبات الناس اجتماعيا وعلميا وطبيا، وتميز الشيخ المحلاوي عن غيره بأنه كان قبلة الجميع وأستاذ الكل، ويندر أن تجد عالما مربيا مثله في التفاف أصحاب المدارس الفكرية المتنوعة من حوله، ويظهر هذا في أبرز تلاميذه الذين أصبحوا رموزا لاتجاهات مختلفة مثل الدكتور محمد إسماعيل المقدم رمز الدعوة السلفية وأحد أكبر أعلامها، والشهيد عبد العزيز الرنتيسي القيادي المعروف في حركة “حماس” لأنه درس الطب في الاسكندرية، والدكتور إبراهيم الزعفراني أحد القادة التاريخيين لجماعة الإخوان المسلمين في الإسكندرية، وكان للشيخ المحلاوي جولاته في المحافظات الأخرى، ولا سيما جامعة أسيوط عاصمة العمل الإسلامي في الصعيد، وعرين الجماعة الإسلامية التي ارتبط قادتها بالشيخ المحلاوي ارتباطا وثيقا، وكان له بالغ الأثر في إرشادهم وتوجيههم، واستمروا على وفائهم له، وعرفانهم بفضله حتى لقي ربه.
أكثر من ستين سنة قضاها الشيخ المحلاوي في التعليم والتربية والحديث في الشأن العام، وتناول قضايا الأمة والنضال في ميدان معركة الوعي، ومع اختلاف أنظمة الحكم المتوالية ظل المحلاوي معتزا بأزهريته، ومحافظا على نهجه وطريقته التي اختطها لنفسه، باسطا كفه للتعاون مع الجميع، والأخذ بيد الكل، ولعل فترة عمله الأولى في بحيرة البرلس المعزولة، أثناء فترة صدام جمال عبد الناصر بالإسلاميين، حالت بينه وبين الاشتباك مع الحالة العامة، وكانت حماية له من البطش والتنكيل، وحدثت بعض المضايقات عند انتقاله للعمل في الإسكندرية ورفضه أمر الدعاء لعبد الناصر في خطبة الجمعة.
أما فترة حكم السادات فكان الشيخ المحلاوي في الواجهة رافعا لواء المعارضة، وينتقد مواقف السادات والمقربين منه علانية، فشملته قرارات اعتقال سبتمبر/أيلول الشهيرة التي كانت قبل اغتيال السادات في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، وفي خطاب السادات الشهير أثناء هذه الأحداث، خصص جزءا كبيرا منه للحديث عن الشيخ المحلاوي، الذي عارض اتفاقية السلام بقوة، ورفض مخرجات كامب ديفيد بشدة، حتى بلغ الضيق بالسادات إلى سب المحلاوي في خطابه، بكلمات بقيت محفورة في نفوس المصريين، ورد عليها فضيلة الشيخ الشعراوي بقوله: إن الأزهر لا يُخرج كلابا، وإنما يُخرج علماء ودعاة!
مع تاجر الحشيش
وروى لنا الشيخ المحلاوي قصة طريفة في فترة اعتقاله تلك، فقال: دخلت السجن مرتديا “الجُبَّة” البيضاء والعمامة، وما إن استقر بي الحال في الزنزانة 25، حتى قابلني شاب أثناء فترة الخروج القصيرة، وكان مسجونا بالزنزانة المقابلة، وقال لي: يا شيخ أنت والدي، فقلت له: أشكرك، فلم أكن أعرفه، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أحضر لي ملابس من عنده لأبدل ملابسي، وبالغ في الحفاوة بي حتى حوّل السجن إلى جنة، وخفف عني كثيرا، واكتشفت بعد أيام أنه “شاري” السجن بفلوسه، وأنه أحد أكبر تجار الحشيش في مصر، وشهرته المعلم “حمامة”، وينتمي إلى عرب السويس، وأنه سُجن قبلي بأربعة أو خمسة أشهر فقط.
فقلت له: لن آكل من طعامك حتى تتوب من بيع المخدرات وتنتظم معي في الصلاة، فعاهدني على ذلك، وفي الصباح كان أخونا حمامة -رحمه الله- قد سمع خطاب السادات هو الآخر، وحينما حان وقت الخروج من الزنزانة وجدته يتجه إليَّ قائلا: “يا مولانا دا أنت طلعت خطير قوي”، ثم قال كلمة تركت أثرا كبيرا في نفسي حين نظر إليَّ قائلا: “لو ينفع آخذ حكم السجن بدالك، أو أقسمه معاك يا مولانا؟ لأنك هتطلع تفيد الناس”، ورأيت الشيخ المحلاوي يترحم على المعلم حمامة والدمع في عينيه.
وللحديث بقية.