فسألت عنهم فكانت اﻹجابة هؤﻻء أبناء القرضاوي، قلت كيف أبناؤه وهم كثر؟ فقالوا هؤﻻء من راسلوا الشيخ وعلم بحاجتهم فتكفلهم، وقال لي أحدهم إن موﻻنا اﻹمام يرسل له مئتي جنيها شهريا.
في مثل هذه الأيام ولد في الأمة إمام ولد اﻹمام اﻷمة، وﻻ يكون إماما للأمة إﻻ من كان أمة وحده، وهو وإن كان فردا في نفسه فقد اجتمع فيه ما تفرق في آحادها.
وﻻ يكون أمة إﻻ من كان إماما في الخير ورائدا إلى كل مكرمة ضاربا في كل غنيمة صالحة بسهم “إذا كنت إمامي فكن أمامي”. إنه اﻹمام اﻷمة شيخنا العلامة أبو محمد يوسف القرضاوي. حفظه الله، إمام العصر وغرة الدهر جمع الله له بين: الفقه والفتوى، واﻷدب والدعوة، والفكر والثورة، والمنطق والحجة، والكتابة والخطبة، والجرأة والحكمة، حائزا في كل فضل السبق وبز اﻷقران يلازمه في ذلك تواضع الكبار.
وسآخذ مما تقدم مثالا واحدا، وهو موقفه من الثورات ودعم الشعوب في نضال تحررها وانعتاقها من أغلال الطواغيت سنجد الشيخ القرضاوي عرف دروب الثورة على الظلم مبكرا وتحديدا في مرحلة التعليم الثانوي باﻷزهر المنيف محضن اﻷحرار وقبلة الثوار مما جعله يعرف طريق السجن مبكرا أيضا فاعتقل في سجن الطور قبل أن يدخل الجامعة وكان من أصغر المعتقلين سنا في حينها.
لكن ذلك لم يرهبه ولم يفت في عضده، وظل على ثورته على الباطل وغيرته على الحق يفضح الظالمين ويدمغ المبطلين، حتى هبت رياح التغيير في بلاد الربيع العربي فكان أول من أفتى وآذر ونافح وكافح في سبيل أن تبلغ ذروتها وتحقق ثمرتها، في وقت حار فيه الحليم واختلط الأمر على كثير وادلهم عليهم ليل بهيم، وهو ينادي صبحكم قد أسفر فهل من مشمر؟ فكان الرائد في ثورة تونس، والمرشد في ثورة مصر، والمجاهد في ثورة ليبيا، والحادي في ثورة اليمن، ومازال مرابطا مع اﻷشقاء في سوريا، وقد سألني أحد من يشار إليهم بالبنان ونحن نتأهب للحديث إلى وسائل الاعلام إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير: كيف نصنع؟ وبم نفتي، والجو غائم والسحاب كثيف؟ فقلت له ﻻعذر لنا وقد نسج الشيخ القرضاوي وسبق فما علينا إﻻ أن نتبع غرزه وننسج على منواله.
أوﻻ : في بداية التحاقي باﻷزهر الشريف وكنا نسكن في المدينة الجامعية بالقاهرة وعامة الطﻻب يومئذ ممن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، ولكن لفت نظري مجموعة من زملائي على غير المعروف وﻻ المألوف؛ تظهر عليهم شبهة غنى أو أثارة من ثراء !فسألت عنهم فكانت اﻹجابة هؤﻻء أبناء القرضاوي. قلت كيف أبناؤه وهم كثر؟ فقالوا هؤﻻء من راسلوا الشيخ وعلم بحاجتهم فتكفلهم، وقال لي أحدهم إن موﻻنا اﻹمام يرسل له مئتي جنيها شهريا، وكانت نفقات اﻹقامة واﻹعاشة كاملة بالمدينة الجامعية وقتئذ أقل من أربعين جنيها.
ثانيا: كان من المقررات الدراسية في كلية الدعوة اﻹسلامية التي تشرفنا بالنسبة إليها مادة “الأساليب اللغوية” فضم إليها أستاذ المادة فضيلة د. محمد عبد المنعم البري – أحد رموز الدعوة وأساطين اﻷزهر – في السنة النهائية ديوان نفحات ولفحات من شعر موﻻنا الشيخ القرضاوي، فأثمر ذلك رباطا عاطفيا بيننا وبين الشيخ، ﻷن الشعر بريد المشاعر، باﻹضافة إلى الرباط الفقهي والدعوي.
وكان سيدنا الشيخ محمد البري متيما بالشيخ اﻹمام ومدرسته فدرس لنا أيضا من كتبه كتاب ثقافة الداعية ليضبط بوصلتنا العلمية والثقافية من خلال الخريطة التي حددها اﻹمام القرضاوي . حفظه الله.
واستكمالا لهذا المشروع الفكري وتعميقا لصلتنا بهذه المدرسة اﻷصيلة، مدرسة اﻷزهري الثائر، قرر علينا الشيخ البري في مرحلة الدراسات العليا بعضا من مؤلفات الشيخ “محمد الغزالي” رحمه الله فتوثقت الصلة، وتأكدت الروابط فقررت أن أجعل أطروحتي العلمية عن الشيخ محمد الغزالي وفكره وعطائه.
ثالثا. بعد وفاة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، كتب عنه الشيخ القرضاوي كتابا بعنوان: “الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن”، ودعا الشيخ في مقدمة الكتاب أن يوفق الله من طلاب الدعوة من يكتب عن الشيخ الغزالي وينشر علمه، وكانت ساعة إجابة وأصابتني بركتها، ﻻسيما وقد أجرى الله على لسان الشيخ كلمة طﻻب الدعوة، فكنت أول من كتب عن الشيخ الغزالي بعد وفاته، ثم عمت بركة الدعوة عددا من إخواني طلبة العلم الذي كتبوا عن الشيخ رحمه الله.
رابعا: قدر الله أن نجتمع مع شيخنا اﻹمام في قطر بعد أن تعثرت ثورة مصر وتبدل حالها ،فكانت محضنا تربويا رأينا فيه كيف يطبق الشيخ القرضاوي ما كتبه للناس، فحياته لدينه ووقته ﻷمته ودعوته، ﻻ تفوته مناسبة إﻻ ويشارك الناس في أفراحهم ويواسيهم في أتراحهم، مع مشاغله الجسام؛ فنعمنا بعطفه ورعايته ووصله وأبوته، فخفف الله به فراق الأوطان وجبر به ما في النفس من آﻻم، فجزاه الله عنا خيرا وعن كل أهل اﻹسلام ومتع بحياته أحبابه وطلابه، ونفع بعلومه على الدوام.