الشيخ الغزالي كما عايشته (2):
نوفمبر 17, 2017بير العبد …وبير الخيانة
ديسمبر 1, 2017رصدت بعض المظاهر التي تفرد بها السودان عن محيطه العربي بل وما هو أوسع من محيطه.
شريان النيل الذي يربط مصر والسودان ليس مجرد نهر عذب تكونت على ضفافه حضارة البلدين، وإنما هو كالحبل السري الذي يربط بين الأم والجنين والذي لا يعني انفصاله انفصالا بل تبقى علاقة الدم بكل معانيها.
الذي استوقفني أن السودان في الفترة التي كانت فيها مصر تأن تحت وطأة حكم العسكر الذي سيطر عليها بعد انقلاب 23 من يوليو/تموز 1952 كان السودان يحيا حياة غنية بالحرية والحركة، والثورة وتداول السلطة، ولا تخلو من نوبات كر وفر، مع العساكر الذين تلعب خمر السلطة برؤوسهم ولا أمل في علاجهم من إدمانها!
لقد رصدت بعض المظاهر التي تفرد بها السودان عن محيطه العربي، بل وما هو أوسع من محيطه، وخلصت إلى أن ذلك مرده إلى الفطرة النقية التي عليها عامة السودانيين، وقوة الروابط الاجتماعية التي تجعلهم يتكاتفون في السراء والضراء، ثم بقية البداوة التي جعلتهم يألفون الفضاء الواسع ويأنفون ما يكبل الحرية، وأجمل مظاهر هذا التفرد في الآتي:
إسماعيل الأزهري رئيس أول حكومة وطنية، ومؤسس الحزب الديمقراطي الاتحادي عام 1952م الذي يقوم على مشروع الوحدة مع مصر، وكان من رعاته الرئيس محمد نجيب، هو نفسه من أعلن الاستقلال من داخل برلمان السودان عام 1955م، بعد أن عهدت مصر الجديدة بملف السودان إلى الصاغ صلاح سالم، ثم أطاحت الرئيس نجيب الذي عمل في السودان وعلاقة أهله به وثيقة، ويعتبرونه واحدا منهم، مع تأميم الحياة السياسية والتنكيل بكافة المعارضين.
حدث أول انقلاب عسكري في السودان في17 من نوفمبر/تشرين الثاني 1958م، وتسلم السلطة الفريق إبراهيم عبود، والعجيب أنه أول انقلاب يتم بالتوافق بين رئيس وزراء ـ وهو آنذاك عبد الله خليل ـ وقادة الجيش وكان أشبه بالتنازل عن السلطة، حيث كثرت المعارك السياسية بين الأحزاب وتشعبت؛ ويعد هذا الانقلاب بصورته تلك من السوابق التاريخية.
استمر حكم الفريق إبراهيم عبود إلى العام 1964م، حيث ثار شعب السودان علي حكم العسكر وخرجت جموعه الغفيرة تطالب بالرحيل، ولما اطلع الفريق عبود على الحشود قال كلمته المشهورة: كل هؤلاء يرفضون حكمي؟ وقرر التنازل، وانتصرت الثورة.
يعرف الناس البوعزيزي شرارة انطلاق الثورة في تونس، أو خالد سعيد في ثورة مصر، لكن قليلا من يعرف أن “أحمد القرشي طه” الطالب الذي قتل في مظاهرات الجامعة هو شرارة ثورة 1964م في السودان، وهي أول ثورة شعبية على نظام حكم عسكري في البلاد العربية.
وكان ذلك على إثر محاضرة ألقاها د. حسن الترابي، الذي كان يدرس في الجامعة. ومن جملة النوادر أنه شغل منصب عميد كلية الحقوق والقانون وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وتزوج من تلميذته السيدة وصال المهدي أخت الإمام الصادق المهدي غريمه السياسي، ما يؤكد فعلا أن السودان (سمح شديد).
بعد نجاح الثورة الشعبية عام 1964م تولى الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، رئاسة وزراء السودان في العام 1966 وكان في عقده الثالث، في سابقة تضاف إلى ما تفرد به السودان وأهله؛ وتعتبر جماعة أنصار المهدي أو الثورة المهدية نسقا فريدا ونظما عجيبا، فهي جماعة صوفية لكنها تضع الجهاد في ذروة أدبياتها (كما وضعه الإسلام) مخالفة بذلك الاتجاه الأعم الغالب للطرق الصوفية في البلاد العربية، التي تعيش في كنف الحاكم وتبرر الاستبداد وترحب بالقيادة العسكرية المتسلطة أكثر من المدنية المنتخبة!
ولعل الجناح الآخر من صوفية السودان وهو الطريقة الختمية (وأخواتها) ويتزعمها آل الميرغني هي من تحافظ على المسلك الصوفي العام؛ وليس فكر الجهاد وما يتطلبه من مراحل الإعداد هو ما يميز أنصار المهدي فقط بل هي في طليعة العمل الثوري، ومن أقوى جماعات الضغط السياسي ولها ذراعها القوي في ذلك وهو حزب الأمة، كما أنها في الظروف العادية، تنتهج الديمقراطية وآلياتها كوسيلة للتغيير، وهذا الذي مكن الإمام الصادق المهدي من تشكيل حكومته الثانية بعد الثورة على نظام نميري بعد حكم عسكري دام ستة عشر عاما.
وقد ظهر النبوغ المبكر على الصادق المهدي، حيث رفض التعليم في كلية فيكتوريا بالإسكندرية وهو دون الخامسة عشرة؛ لإدراكه أنه تعليم موجه وتشكيل لعقول أبناء القادة والزعماء الذين جمعهم هذا المكان، وعاد لدراسة العلم الشرعي في السودان، ثم حصل لاحقا على الشهادة العالية من جامعة أكسفورد، وله أكثر من خمسين مؤلفا في مناحي شتى منها الشريعة والسياسة والحكم والعلاقات الدولية.
ويعتبر الصادق المهدي من نوادر العصر الحديث الذين جمعوا بين الإمامة الدينية والزعامة السياسية وغزارة الإنتاج الفكري، وصدقت فيه فراسة جده الإمام عبد الرحمن المهدي.
قام جعفر نميري بانقلاب عسكري في 25 من مايو/أيار 1969م وعرف السودان دموية العسكر على يديه حيث قام بمجزرة مروعة لأهل (الجزيرة أبا) مركز أنصار المهدي، والتي أوى إليها الإمام الهادي المهدي بعد الانقلاب وتذكر المصادر أن القتلى عدة آلاف وقتل الهادي المهدي قبل وصوله إلى إثيوبيا، ثم توطدت علاقة النميري بأنور السادات وكان أول من بارك معاهدة كامب ديفيد مع الصهاينة المحتلين، وقام بنقل يهود الفلاشا عن طريق السودان لتوطينهم في فلسطين بالإضافة إلى تردي الأوضاع المعيشية، فقام الشعب السوداني بثورته الثانية على الحكم العسكري، الذي أطبق على أنفاسه ستة عشر عاما، في الوقت الذي كانت باقي الدول العربية ترى حكم المستبدين قدرا مقدورا
وانحاز الجيش إلى ثورة الشعب، وقبل المشير عبد الرحمن سوار الذهب وزير الحربية في 1985 أن يتولى مقاليد الحكم لمدة سنة كفترة انتقالية يسلم فيها السلطة إلى حكومة منتخبة، وكان هو الاستثناء من بين بني جنسه، حيث وفى بعهده وسلم الحكم طواعية في سابقة أخرى من سوابق الخير للسودان وقائده الذي أبان عن معدن من ذهب. وكانت الحكومة الثانية لرئيس الوزراء الصادق المهدي عام 1986م.
استطاعت الحركة الإسلامية بقيادة زعيمها، د. حسن الترابي الإعداد لانقلاب عسكري أطاح حكومة الصادق المهدي، في 30 من يونيو/حزيران 1989م من خلال عناصر موالين لها في الجيش السوداني بقيادة عمر البشير، ثم أطلقوا عليها بعد ذلك ثورة الإنقاذ. ولم يدم الوفاق طويلا مع الترابي الذي يرى أن العقيدة العسكرية أكبر مما سواها في نفوس العسكريين، ما أدى إلى اعتقاله بعد ذلك.
ويعتبر د. حسن الترابي من العلامات الفارقة في تاريخ السودان الحديث، وكذلك في تاريخ الحركة الإسلامية، ولا يقل الترابي عن نظرائه من مؤسسي العمل الإسلامي وقادة الصحوة في بلاد المسلمين نبوغا وتميزا، فمع حفظه للقرآن الكريم والحرص على مراجعته كان يجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
ولم تكن نظرته محلية قطرية بل كان يحمل الهم العام والقضايا الكبرى، لكن جنى عليه ـ من وجهة نظري ـ بعض اختياراته الفقهية وآرائه العقدية التي مثلت صدمة كبيرة عند فقهاء الشريعة وعلماء العقيدة وصلت أحيانا إلى أفاق بعيدة، والسبب أن الرجل نسب إلى الفقه والاجتهاد، وهو لم يقل عن نفسه ذلك، بل قال إن المشيخة وضعت أمام اسمي على عادة من يقضون أوقاتا من حياتهم في السجون أو يتقدم بهم العمر.
وهو وإن درس بعض العلوم الشرعية في بداية حياته على شيوخ في السودان، فإنه تخصص في دراسة الحقوق في الخرطوم، ثم حصل على الماجستير من بريطانيا والدكتوراه من فرنسا؛ ولا يختلف أحد على أنه من فقهاء الدساتير وعلماء القوانين، ويعد هرما من أهرام السودان في الفكر والسياسة.
وأحسب أن معين السودان لن ينضب، وأن أرحامه ولادة، وأن نهضته ستكون حلقة قوية في نهضة الأمة من كبوتها وقيامها من وهدتها.