تهويد القدس من بلفور إلى ترمب
ديسمبر 9, 2017مفتي الإعدامات
يناير 5, 2018فكيف بعبد الملك لو رأى حكام اليوم والعجمة بادية على ألسنتهم ومنهم من يفخر بجهله بلغة بلده ودينه!
اصطلح المسلمون على نعت فترة ما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه بالعصر الجاهلي أو زمن الجاهلية؛ وهو وصف صحيح بالنظر إلى الناحية العقدية وبعض العادات والتقاليد التي ورثوها عن أسلافهم، لكن في تعميم الوصف مجافاة للإنصاف ومخالفة للواقع.
فقد كان للعرب من كريم الخصال وجميل الفعال ما ينفي هذا التعميم ويدحضه، كالكرم والشجاعة وحفظ الجوار وحب الشعر وتذوق النثر حتى أقاموا لذلك أسواقا كعكاظ وذي المجنة وذي المجاز وكانت أشبه بما يعرف الآن بالمهرجانات الثقافية والمعارض الجماهيرية.
وبلغ من حرصهم على اللغة وسلامتها أن أهل الحضر كان يسترضعون أطفالهم في البادية حماية لأبدانهم من الأمراض ولألسنتهم من اللحن لاعتقادهم باختلاط لغة الحضر باللغات الأخرى؛ وهذا في زمانهم وهو ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان مسترضعا في ديار بني سعد في بيت حليمة السعدية.
واستمر هذا زمنا في صدر الإسلام حتى قال أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لقد فكرت في صرف ولاية العهد عن بكرنا الوليد لأنه يلحن فقد أضر به حبنا له فلم نوجهه للبادية.
فكيف بعبد الملك لو رأى حكام اليوم والعجمة بادية على ألسنتهم ومنهم من يفخر بجهله بلغة بلده ودينه!
اللغة هي عنوان الأمم ومؤشر مكانتها ونهضتها، لذا تسعى الدول الراشدة إلى نشر ثقافتها وترغيب الناس في تعلم لغتها بل إن القوى الاستعمارية جعلت هذا هدفا أصيلا في تغيير هوية ما وقع تحت أيديهم.
من الأراضي المحتلة، لكن القوة العسكرية لم تحقق الثمرة الكاملة فعمدوا إلى الغزو الفكري والاحتلال الثقافي فكانت الخطة أنجع والنتيجة أسرع؛ فمن خلال ما دسوه في المناهج ومزاحمة لغتهم للغة العربية في مراحل التعليم الأولى ثم جعل إجادتها شرطا للتوظيف والترقي تحقق الهدف وتم المراد؛ ثم جاءت المدارس الدولية فجعلت من اللغة العربية مادة ثانوية ودرست كل العلوم في المراحل الأولى باللغات الأجنبية، وشكلت بذلك هوية الطالب وحددت مسار ثقافته.
وهذه الظاهرة لا يمكن أن تجدها في بلد يحترم تاريخه أو يحافظ على هويته كما أن تدريس اللغة الأجنبية لغة أولى جناية على الناشئة وجريمة على هوية الأمة وثقافتها واختراق للأمن القومي فيها لأن أبناء هذه المدارس غالبا من طبقات النخبة الذين تنتظرهم الوظائف العليا لإدارة البلاد نيابة عن المحتل.
ولا يجد الأباء والأمهات من المسلمين والمسلمات أية غضاضة في الافتخار بأن أولادهم لا يعرفون لغة أجدادهم التي شرفها الله فأنزل بها كتابه العزيز وقال لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: “وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُون” (الزخرف-44).
والذكر الشرف
ويقول حافظ إبراهيم بلسان لغة القرآن:
وَسِعْـتُ كِتَـابَ الله لَفْظَـاً وغَايَـةً . . .
وَمَـا ضِقْـتُ عَــنْ آيٍ بــهِ وَعِـظِـاتِ
فكيـفَ أَضِيـقُ اليـومَ عَـنْ وَصْـفِ . . .
آلَـةٍ وتنسيـقِ أَسْـمَـاءٍ لمُخْتَـرَعَـاتِ
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ . . .
فَهَلْ سَأَلُـوا الغَـوَّاصَ عَـنْ صدفاتي ؟
ثم إن اللغة العربية ليست لغة جنس وإنما لغة دين فلا تصح صلاة المسلم أيا كان لسانه إلا إذا قرأ فاتحة الصلاة بالعربية؛ وليس معنى هذا أننا ضد تعلم اللغات فإن اختلاف الألسنة من آيات الله في الأنفس والأفاق، قال الله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ” (الروم-22)
وقد انتدب رسول الله صلى الله عليه زيد بن ثابت لتعلم السريانية لما ساكنوا اليهود في المدينة النبوية.
علينا أن ننظر حولنا كيف أحيا اليهود لغة ميتة يتكلم بها بضعة ملايين، وأهمل العرب لغة حية يتكلم بها قرابة نصف مليار ويتعبد بها أضعاف ذلك؟!
بل إن البلاد التي ندرس كل شيء بلغاتهم لا تسمح بتدريس اللغة العربية في مدارسها لأبناء المسلمين، وتعتبر ثقافة المدارس الخاصة استقلالا عن الدولة وخروجا عن نظامها ولا يسمحون بها إلا في القليل النادر، وقد عايشت هذا وعاينته، فهل سمعتم أن اليابان تدرس لأطفالها لغة الألمان وهل تدرس فرنسا لغة الأسبان وهما جيران؟
كيف نصنع بأنفسنا وأولادنا ما عجز الاستعمار عن صنعه في بلادنا؟ حتى سمعنا بعض المتفرنسين في الجزائر يقول: لابد من الحفاظ على اللسان الفرنسي فهو حسنة الاستعمار!
وإننا لا نعيب على أحد في الاعتزاز بلغته ولكن لما نرضى الدنية في لغتنا، ورحم الله أحمد شوقي إذ يقول:
إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِنًا
جَعَلَ الجَمالَ وَسرَّهُ في الضادِ.