حاولت سابقا أن أكتب عن الشيخ عصام دربالة فعجزت!
وفي الذكرى الثالثة لمقتله غالبت نفسي لأسجل شهادتي عنه بعدما قضى نحبه في سجون مصر مقبلا غير مدبر فربح البيع يا أبا الحسن.
إنه الشاب المتفوق دراسيا والمحبوب اجتماعيا الذي نشأ في قرية من قرى الصعيد الطيب لأسرة من أسر المنيا الكبيرة ذات المكانة المرموقة والسمعة الطيبة؛ شقيقه الأكبر المستشار ناجي دربالة نائب رئيس محكمة النقض المصرية وأحد أبرز قيادات تيار استقلال القضاء، ثم أحد المشاركين في كتابة الدستور بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير
التحق عصام دربالة بكلية الهندسة جامعة أسيوط وفيها تعرف على مجموعة من الطلاب يحملون الفكرة الإسلامية وبهم تكونت الجماعة الإسلامية فكانوا أولى لبناتها ثم شيوخها.
كان أبرز ما يميزه حب الاطلاع واستثمار الوقت في القراءة والحرص على إنجاز العمل من خلال خطة معدة سلفا.
لذا كان أكبر المهتمين بحلقات التعليم والمدارس العلمية التي تبني الفرد بناء علميا صحيحا بخلاف الخطب والمؤتمرات التي تلهب المشاعر وتحرك العواطف وينتهي الأمر عند ذلك.
ثم كان مقتل السادات وما تلاه من أحداث قادته ورفاقه إلى غياهب السجون فقرر أن يحول المحنة إلى منحة واعتبر أن هذه الفترة فترة إعداد وتربية، وتعليم وتزكية.
فوضع البرامج التي تحقق ذلك وعمل بكل جد على تنفيذها حتى قال إخوانه في مدة السجن التي طالت إلى خمس وعشرين سنة لم يكن عند الشيخ عصام وقت فارغ ولا زمن مهدر لذا حصل على ليسانس الآداب ثم ليسانس التاريخ ثم الحقوق وحصل على دبلومة في الشريعة الإسلامية وأعد رسالة الدكتوراه في القانون.
وكانت يده اليمنى قد بترت في الأحداث ومع ذلك لم يسمح لأحد قط أن يساعده في غسل ملابسه بل اجتمعت كلمة المعتقلين على مطالبة إدارة السجن بإدخال غسالة ملابس مراعاة لظروفه وبعد إلحاح عليهم وعليه وافق وأحضرتها أسرته لكنه تركها لإخوانه وظل يغسل بيد واحدة حتى تلفت الغسالة فأرسل واشترى لهم أخرى!
كانت قضية محاربة الغلو في التكفير أهم القضايا التي نذر لها حياته وكتب أبحاثا حولها في السجن وقام بتدريسها للرد على من يقولون بعدم العذر بالجهل، ومع اقتراب صدور الأحكام على المعتقلين فيما نسب إليهم من قضايا بدأ في الإعداد لخطة العمل والدعوة لمن ستكتب لهم البراءة، وخطة التعليم والتربية لمن سيكمل في السجن وتهيئة كل فريق لذلك.
وكذلك فعل بعد ثورة يناير لاسيما بعد انتخابه رئيسا لمجلس شورى الجماعة الإسلامية وكانت سياسة البدائل والتفكير المسبق فيها وإعدادها تحسبا للحاجة إليها أهم نواحي العبقرية في شخصية عصام دربالة القيادية، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك حل معضلة التوافق على نسب الأحزاب السياسية في لجنة وضع الدستور حيث طرح حزب البناء والتنمية الذراع السياسية للجماعة الإسلامية التخلي عن حصة الحزب لصالح مستقلين فتتساوى كفة الطرفين المختلفين.
كان حريصا على وحدة الصف وجمع الشمل على القواسم المشتركة وما أكثرها رافعا شعار (من عصى الله فينا أطعنا الله فيه).
سألته يوما عن جماعة الإخوان المسلمين فقال إن الحفاظ عليها وعلى تماسك كتلتها هو من الحفاظ على الثورة والمشروع الإسلامي برمته، وأخوف ما أخافه عليهم خلافهم من الداخل!
لذا كانت كلمته المشهورة التي لخصت موقفه من الانقلاب العسكري على الشرعية (موقفنا ديانة لا سياسة) وكانت محاضراته تحت عنوان المواقف السياسية من منطلقات عقدية.
ومن أبرز عوامل التميز في شخصية القائد عصام دربالة القيادة بالاحتواء والتسلح بالصبر وسعة الصدر وعدم الملل في عرض الحجة ودحض الشبهة. كان حييا شديد الحياء صلبا في الحق لا يقبل المهادنة ولا شبهة التنازل! يجمع على قيادته ويطمئن لاختياراته أصحاب الآراء المختلفة والنظريات المتعارضة
ومن أجمل ما سمعته في ذلك حوار منفصل دار بيني وبين قيادتين كبيرتين في الجماعة الإسلامية، كلاهما خرج من مصر مبكرا، الأول قضى عمره في ساحات الوغى وميادين الجهاد كلما سمع هيعة في بلد مسلم سارع إليها، والثاني ساقته أقداره إلى أوربا وتنقل بين عواصمها مهاجرا من ظلم الطواغيت.
وبما إن المكان جزء من الإنسان والمرء ابن بيئته، كانت تصورات الرجلين لوسائل الحل لمشكلات الأمة الراهنة متباينة وأحيانا يطلب منهم الرأي في مسألة واحدة فيشتد فيها الخلاف، فقلت لهما وكيف كان ينتهي الأمر؟ فقال كل واحد منهما بمنأى عن صاحبه كنت أنام مطمئنا لحسن قيادة الشيخ عصام دربالة ورشيد سياسته!
فقلت هذه ولاية وليست مجرد قيادة.
وللحديث بقية