جملة من الأحداث المتقاطعة وقعت الأيام الماضية تلخص ما وصلت إليه الحالة المصرية الراهنة، حيث حققت الطغمة الحاكمة سبقا لم يعهد في أي نظام استبدادي قبلها، ولا أقدمت عليه حتى جيوش الاحتلال، حيث بدأت في تعقب المعارضين ومحاسبتهم بأثر رجعي، حتى من كان يتمتع منهم بحصانة قضائية أو برلمانية، وذلك بعدما أحكم النظام قبضته على تيار “الإسلام السياسي” الذي أصبح أفراده بين قتيل وسجين، أو منفي ومطارد.
تحركت روح الانتقام التي تغذيها النرجسية العسكرية لتبحث عن كل من قال رأيا، أو أظهر تأييدا لموجة الثورة، أو أبدى معارضة مشروعة أثناء حكم المجلس العسكري، أو شغل منصبا حكوميا في فترة حكم الرئيس المنتخب د. محمد مرسي!
ها هي الأسابيع تتوالى بعد اختفاء النائب البرلماني مصطفى النجار مؤسس حزب العدل، بعد أن وجهت له اتهامات بإهانة القضاء خلال وجوده في مجلس الشعب، خلافا للثوابت المقررة التي تؤكد أن النائب لا يؤاخذ بما يبديه من أراء أثناء القيام بدوره الرقابي على أداء الحكومة، ولا يحقق معه إلا بعد موافقة البرلمان على رفع الحصانة عنه، وحتى يتأكد للمتابع أن النظام الحالي ليست حربه على حزب أو جماعة أو فصيل وإنما على كل من يأنف السير في ركابه، أو تسويغ جرائمه، فإن الدكتور مصطفى النجار كان ممثلا للتيار المدني وشباب الثورة في الانتخابات التي خاضها أمام د. محمد يسري إبراهيم المرشح الذي اتفقت عليه كلمة الإخوان والسلفيين في دائرة مدينة نصر، ومع ذلك كله لا يدري أحد أين هو الآن في أغرب واقعة اختفاء قسري لشخصية عامة!
وبنفس تهمة إهانة القضاء تم اعتقال المحامي الكبير الأستاذ محمد منيب الذي كان رمزا للتيار الناصري في برلمان 2012، وبعيدا عن مكانته القانونية، وشهرته في عالم المحاماة، فقد عاينت أداءه الرائع في مجلس الشعب من خلال الانتصار للقضايا العادلة، والدفاع بكل قوة في مجال الحقوق والحريات دون نظر إلى انتماءات حزبية، أو توجهات فكرية، ولا أنسى موقفه المشرف من قانون العفو الشامل عن كل من حكم عليه بتهمة قلب نظام الحكم في فترة حكم حسني مبارك الذي خلعته ثورة الخامس والعشرين من يناير، نظرا للتلفيق المتعمد، والاعتراف تحت التعذيب، واستنادا إلى السوابق التاريخية والقانونية في ذلك، وتقدم به عن حزب البناء والتنمية النائب عامر عبد الرحيم، وتصدى الأستاذ محمد منيب دفاعا عن القانون بالدفوع القانونية في مواجهة العراقيل التي وضعها د. إيهاب رمزي الذي حشد خلفه كل النواب الأقباط للتصويت ضد القانون، ولولا وقفة د. عطية عدلان والأستاذ ممدوح إسماعيل لقلنا إن موقف عامة الإسلاميين كان هو الأبهت بين الكتل البرلمانية، بل تمت محاولات حثيثة لعدم تمريره إلى الجلسة العامة!
هل تخيل الأستاذ محمد منيب يوما أنه سيعتقل لدفاعه عن حقوق المعتقلين قبل سنوات من الآن؟ لكن الذنب الذي لا يمحى من سجلات العسكر، هو كيف تجرأت على المعارضة سابقا، ثم صمت عن تأييدنا الآن؟
وأبرز ما يميز النسخة العسكرية الأخيرة أنها لا تعترف بالخطوط الحمراء ولا بالمسلمات، أو التخويف من تلويث السمعة أو الحرص على الرأي العام، ويتجلى هذا بوضوح في اعتقال المستشار أحمد سليمان الرجل الذي تدرج في سلك القضاء شابا حتى أصبح وزيرا للعدل وشيخا للقضاة، لكن قدره أنه تولى المنصب في عهد الرئيس الذي اختاره الشعب!
لم يشفع للرجل السبعيني تاريخه على منصة العدالة، أو ما يعانيه من أمراض، حيث اقتادته قوة من الشرطة من مسكنه في محافظة المنيا في وسط الصعيد، ورحلته إلى نيابة أمن الدولة العليا بالقاهرة التي تبعد 250 كيلو متر عن مسكنه، كما أفاد نجله المستشار محمد سليمان في حديثه إلى إحدى القنوات الفضائية، وذكر أن من التهم الموجهة إلى والده، الإصرار على القول بمصرية جزر تيران وصنافير، بالإضافة إلى قائمة الاتهامات المعهودة.
لكن ليسمح لي القارئ الكريم أن أضع هذه الوقائع الطازجة بين يدي قادة حزب البناء والتنمية المعبر عن الجماعة الإسلامية، الذين يعتبرون وجود لافتة الحزب، وسريان ترخيصه مكسبا سياسيا يجب المحافظة عليه، والعمل من خلاله تحت مظلة هذا الحكم السلطوي الغاشم الذي يحاسب الناس على أنفاسهم وبأثر رجعي، ولا يفرق بين البرادعي ولا الناصري أو الإسلامي!
النظام الذي قتل شيوخك ورموزك، ويعتقل قادتك وكوادرك، وصنف الجماعة ضمن الكيانات الإرهابية في خطوة لم يجرؤ عليها مبارك الذي بينكم وبينه تاريخ من المواجهة والصدام، ثم وضع أعضاء الحزب وكبار مؤسسيه على قوائم الإرهاب أيضا، فسايرته وحذفتهم من كشوف العضوية!!
أخشى أن يكون أهل البناء والتنمية قد أمسكوا بحبل التنازلات الذي طرفه بيد الخصم ولا يعرف له آخر، حذار من الإمساك بمسبحة النظام، فمن وضعها في يده وأدار حباتها أتم الورد كاملا لا محالة.
إنني لا أطالب إلا بالحفاظ على تاريخ لن ينساه لكم النظام الذي لم يغفر لمصطفى النجار كلمة معارضة بدأها وختمها بابتسامته المعروفة!
أو كلمة حق قالها في حقكم محمد منيب مدافعا عن حريتكم وهو لا يعرف أشخاصكم، ولا يؤمن بأفكاركم.
إن النظام الذي لا يسمح لأحمد سليمان وزير العدل بالمعارضة من بيته، هل سيسمح لكم بالمعارضة في العلن؟
إن استقالة بعض رموز حزب البناء والتنمية مؤخرا إنما هي لرفع الحرج عنكم، وعدم تحميلكم فوق طاقتكم، وأداء لواجب البلاغ، وحق النصيحة، وشكرا لنعمة الحرية ممن هم خارج السجن الكبير.
لم يطالبكم أحد بإلقاء أنفسكم في التهلكة، أو مواجهة آلة القتل والدمار، ولكن حافظوا على رأس المال، وأوقفوا البيع بالمجان!
كيف غاب عن فطنتكم ما فعله شباب حزب مصر القوية عندما جمدوا أعمال الحزب بعد اعتقال د. عبد المنعم أبو الفتوح لانسداد الأفق السياسي.
ولم تعلنوها أنتم بعد مقتل الشهيد عصام دربالة، وانسداد أمعاء الشيخ عزت السلاموني الذي ظل يتلوى تحت بصر العساكر حتى فارق الحياة …!!
هل سيقدم أحد من الإسلاميين لانقلاب 3 يوليو مثل ما قدم د. كمال الهلباوي الذي كان لسانهم المعبر والمدافع عنهم والمنظر؟
راجعوا ما كتبه قبل أيام عن مبادرة المستقبل التي أعلن فيها أنه لا أمل ولا عمل، في ظل النظام القائم وعلينا التفكير لمراحل المستقبل..
كما لا أنسى نصيحة الأخ المسئول عن سجن استقبال طرة عام 1995 عندما حصلت على إخلاء سبيل من نيابة أمن الدولة العليا، وكنت موقنا بالإفراج والفرج، فقلت له بما تنصحني فقال: إن استطعت أن تحافظ على نفسك حتى يخرج إخوانك فهذا هو الفوز العظيم والمكسب الكبير، وبالمناسبة هذا الشيخ الفاضل هو أحد أعضاء مجلس شورى الجماعة الإسلامية الآن، وإني أذكره بما انتفعت به منه.
مصر أصبحت سجنا كبيرا وكل من فيها في حكم الأسارى، على تفاوت في درجات القيد وشدة الحبس، وأدنى درجات تغيير المنكر مفارقته، وعدم مخالطة أهله، والبراءة من فاعله، مع العمل على إصلاح نفسك ومن تعول، والبقاء على نية طيبة في انتظار لحظة فارقة لن تطول.
والليالي من الزمان حُبالى… مثقلات يلدن كل عجيب