يتحرج البعض عند ذكر مدة احتلال فرنسا للجزائر خشية أن ينسب إلى المبالغة، وربما يعاود فرك عينيه وهو يقرأ التاريخ الذي هو من مسلمات التاريخ، حيث احتلت فرنسا الجزائر احتلالا استيطانيا لمدة 132 سنة بداية من عام 1830 حتى الاستقلال في 1962
اعتبرت فيها الجزائر جزءا من أراضيها، وأهل الجزائر رعايا للدولة الفرنسية، يعملون بالسخرة في أجود الأرض التي تملكها الفرنسيون، ويجندون إجباريا في جيش فرنسا الذي كان يخوض حربا عالمية، ينفق فيها من أرواح الجزائريين بغير حساب، مع تعمد الزج بهم في الصفوف الأمامية والأماكن الخطرة،
وتم فرض الهوية الفرنسية قهرا على المجتمع، وحوربت اللغة العربية بضراوة، وأصبح التعليم باللغة الفرنسية في كل المراحل، حتى ذهبت العربية بالكلية، وأصبحت الفرنسية لغة العامي والمتعلم!
لكن الروح الإسلامية الوثابة، وما يتميز به شعب الجزائر من الشجاعة وعزة النفس والشهامة، لم يمكن آلة الحرب الفتاكة من النيل منهم، وانتفضت أرض الفتوحات والبطولات ضد المحتل، ولم تهدأ نار الثورة في نفوس الجزائريين، ولم يهنأ الفرنسيون بطيب المقام فيها، فلم تمر عشر سنوات في عمر هذا الاحتلال الطويل إلا ولأبطال الجزائر وقفة وثورة، كان من أشهرها ثورة الأمير عبد القادر الذي جاهد ما يقرب من سبع عشرة سنة (1832 ـ 1847م) ضد هذا الاحتلال البغيض.
وبدأت قوافل الشهداء، تسطر بالدماء، أروع الملاحم والبطولات، بأقل الوسائل والمعدات.
وكانت فرنسا تؤكد في كل مرة أنها جاءت لتبقى، وتحاول نزع روح الثورة وحمل الشعب على الاستكانة والرضا بالمذلة، من خلال ردة الفعل العنيفة على كل موجة ثورية، وكان الأمر لا يقتصر على المجاهدين والمناضلين ومن حملوا السلاح، بل يتسع التنكيل ليشمل العزل من النساء والأطفال وكبار السن، بدعوى أنهم يمدون المجاهدين ويساعدونهم!
ومن ذلك ما حدث في 8 من مايو/أيار 1945 بمدينة سطيف وقالمة وخَرَاطَة، من مجازر راح ضحيتها أكثر من 45 ألف شهيد دفعة واحدة! حتى جاءت موجة الثورة التي توجت بالتحرير، وبدأت في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 حتى سنة 1962 في سبع سنوات متواصلة من الجهاد والاستشهاد، قتلت فيها فرنسا من شعب الجزائر أكثر من مليون وخمسمائة ألف شهيد.
ومن هنا كانت جملة “الجزائر بلد المليون شهيد” التي ترسخت في نفوس الجميع، أكذوبة للتقليل من تضحيات هذا الشعب البطل، الذي يعتبر نضاله وجهاده، من أروع الأمثلة التي ظهرت على مدار التاريخ.
حيث قدم شعب الجزائر خلال نضاله الطويل أكثر من سبعة ملايين شهيد، ذكر ذلك كثير من المؤرخين الفرنسيين منهم المؤرخ الشيوعي “جاك جورك” ومن المؤرخين العرب الدكتور “محمد لحسن زغيدي ” فأي ظلم لثورة الجزائر أكبر من أن تختزل في جولتها الأخيرة، التي أحرزت النصر بعد أكثر من مئة وثلاثين سنة من الجهاد والكفاح؟ وأي بخس للشهداء أكبر من حصر عددهم في المليون الأخير، الذي روى أرض الجزائر قبل رحيل المحتل المغتصب؟
ولما يئست فرنسا من البقاء في الجزائر، وأيقنت بالرحيل لا محالة، سارعت إلى أمرين أساسيين:
الأول: إجراء تجاربها النووية لتترك آخر بصماماتها القذرة على الأرض الطيبة، التي مازالت الأجيال تعاني من آثارها حتى الآن، ولا أدري كيف سيبرر هذه الجريمة ضد الإنسانية، أتباع الفرنكوفونية في البلاد العربية؟
والثاني: أنها أدخلت أعدادا كبيرة من الجزائريين الذين كانوا في جيش فرنسا إلى جيش الجزائر الجديد، ونسبة لا بأس بها من هؤلاء، يدينون لفرنسا بالولاء، ويرون أنفسهم من رعاياها إلى النهاية. وقفت فرنسا وراءهم حتى أمسكوا بالمفاصل المهمة في الجيش الجزائري، الذي حكم الجزائر من وراء ستار رقيق، تظهر من خلفه رتبهم العسكرية وتوجهاتهم الفرنسية، وسقطت أكبر ثورة عرفها العالم العربي، وسجلها التاريخ الحديث في حجر العسكر، وكأنه قدر في ثورات العرب!
وأصبحت الجزائر مستقلة عن فرنسا كما أرادت فرنسا، وانضمت إلى أخواتها من الدول الوظيفية التي يحكمها حفنة من أبنائها لصالح المحتل الذي رحل ليحكم عن بعد بأقل الخسائر، وأفضل النتائج!
وكان الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة من الشباب الذين شهدوا النضال، وعاصروا الاستقلال، وعين وزيرا في عهد الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا “رحمه الله” وكان بوتفليقة من أصغر الوزراء سنا، وتقلب في المناصب الكبرى حتى أصبح رئيسا للجزائر في 27 من أبريل/نيسان عام 1999
وتم انتخابه أربع مرات متتالية، وكان في المرة الأخيرة مقعدا على كرسي متحرك في قمة الضعف والعجز، ومع نهاية العهدة الرابعة، إذا بمجموعة المنتفعين والحكام الفعليين، يعلنون ترشحه للعهدة الخامسة في أسوأ استغلال لعجز الرجل وشيخوخته، بدلا من إكرام شيبته ورعايته!
والسبب في ذلك يرجع إلى حرص الكل على النسب المستقرة، وأماكن النفوذ الثابتة، والمحاصصة التي ستختل بتعيين رئيس جديد ولو من نفس المجموعة!!
والمضحك المبكي أنهم يطالبون للرئيس بوتفليقة بعهدة من عام واحد ليرسم فيها مستقبل الجزائر، ثم يفتح الباب لانتخابات رئاسية مبكرة، وكأن الستين سنة التي قضاها في الحكم وزيرا ورئيسا، بقي لها عام فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون!
خرجت جموع الشعب الجزائري تعلن لا للعهدة الخامسة التي أعلنت على لسان الرجل، وهو في مستشفى بسويسرا لا يعرف عنه أحد شيئا، ولا يدري هو من أمر الدنيا شيئا،
ثار أحفاد الشهداء والمناضلين، إكراما لشيبة الرجل الذي يتلاعب به أصحاب المنافع، وحفاظا على سمعة الجزائر وتاريخها المشرف أن تظهر في هذه الصورة، وهم يدركون أن المعركة ليست مع العهدة الخامسة، وإنما مع الطغمة الحاكمة، الذين تدعمهم فرنسا وتراقب أمرهم عن كثب، ويغض إعلامها الطرف عن حالة الرئيس الصحية، وأهليته للحكم! وهنا يثور سؤال: هل لو تقدم الرئيس بوتفليقة للحصول على رخصة قيادة سيارة في فرنسا، هل تسمح له السلطات الفرنسية بذلك؟ فكيف يراد له الحصول على رخصة قيادة أكبر دولة في الأمة العربية، والقارة الإفريقية مساحة وجغرافيا؟
ينبغي أن يتوج هذا الحراك الواعي الذي أعاد أمجاد الأوائل، بتمكين أبناء الجزائر من اختيار من يحكمهم بنزاهة وشفافية، ولا يرجعوا لبيوتهم حتى يرجع الجنرالات إلى ثكناتهم، ويعود الجيش إلى وظيفته في حماية البلاد وأمن العباد، ويقلع عن العمل بالسياسة والاشتغال بها.
إن البيانات المتتابعة التي تصدر عن قيادة الأركان تدل على عظيم الأثر الذي أحدثه الناس في الشوارع، فقد دارت العجلة، وآفة الثورات في العجلة في جني الثمار، وأفضل الأسلحة الصبر والثبات، اصبروا فإنما النصر صبر ساعة.