“يجب الاهتمام بتحري الهلال عند دخول كل شهر وخروجه لأن الخطأ سيؤثر على ما بعده من الشهور”.
يهتم المسلمون في كل عام باستطلاع هلال رمضان، ثم يترقبون رؤية هلال عيد الفطر، وبدرجة أقل يكون اهتمامهم بهلال شهر ذي الحجة الذي يترتب عليه معرفة يوم عرفة ويوم عيد الأضحى، والسبب في ذلك أن الكافة يتبعون رؤية المملكة العربية السعودية، وفيها مكة، التي يؤمها الناس لأداء المناسك.
ثم تطوى صفحة الأهلة إلى نهاية شعبان من العام القابل، وفي هذا خطأ كبير إذ يجب الاهتمام بتحري الهلال عند دخول كل شهر وخروجه لأن الخطأ سيؤثر على ما بعده من الشهور.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ)
كما يتكرر في كل عام اللغط والغلط حول بداية الصيام ونهايته، حتى وصل الفرق إلى ثلاثة أيام بين بعض الدول!
وتتجلى الفاجعة عند المسلمين في الغرب حيث يختلفون تبعا لذلك داخل القطر الواحد، وتجد الحكومات الحجة في عدم منحهم عطلة العيد لأن عيدهم مختلف حسب تعليمات القنصلية أو العصبية المذهبية والقبلية!
وهذا يجعلنا نبحث الأمر من ناحيتين:
الأولى: (وحدة المطالع)
بمعنى أن يصوم المسلمون جميعا بثبوت رؤية الهلال إذا تمت رؤيته في بلد من بلاد المسلمين، وهو مذهب جمهور الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ». رواه الشيخان.
وهذا خطاب عام يشمل جميع المسلمين كما أنه يحقق مقصدا من مقاصد الشريعة في وحدة المسلمين في عبادتهم ويوم عيدهم وفرحتهم، وهذا الرأي تقول به عامة المجامع الفقهية وترجح العمل به، ولم يخالف إلا المجمع الفقهي في مكة المكرمة وأخذ برأي الشافعية مخالفا للجمهور بما فيهم مذهب الحنابلة الذي كانت تقوم عليه الدولة السعودية وتعتبره مذهبها الرسمي!
ومستند الشافعية ومن وافقهم من أهل العلم في القول باختلاف المطالع هو ما أخرجه مسلم عن كريب قال: قدمت الشام واستهل عليّ هلال رمضان فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجواب من وجهين:
الأول: تنائي الديار وبعدها في زمنهم وعدم وجود إمكانية نقل المعلومات والأخبار في حينها، مما يجعل اعتماد قٌطر على غيره قد يضيع عليه الفريضة، وهو ما انتفى الآن تماما في عالم القرية الواحدة، وثورة الاتصالات الحديثة التي جعلت العالم كله يطالع الخبر أو الحدث في وقت واحد.
الثاني: قول ابن عباس رضي الله عنهما هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يُحمل على إهمال رؤية الآخرين إذا ثبتت وبلغتنا في حينها، وإنما يحمل على أن رسول الله أمرنا بتحري الهلال وترك الصيام عند عدم رؤيته، وإلا كان هذا ردا لشهادة العدول من المسلمين الذين رأوا الهلال وشهدوا بذلك.
ولا يخفى ما نعانيه في واقعنا الآن من “تسييس” رؤية الهلال ودخول الأنظمة والحكومات باعتبار مَن الأحق بإثبات الرؤية، واتباع الناس له! وعامة هؤلاء لا يُؤْمنون على دين الله، ولا على عبادات المسلمين وشعائرهم، وهم الذين أخذوا على عاتقهم محاربتها طوال العام في وسائل الإعلام، ورفعوها من مناهج التعليم.
الجانب الثاني:
الاعتماد على الحساب الفلكي في دخول الشهر وميلاد الهلال:
وهو أمر يحتاج إلى وقفة جادة من أهل العلم المعاصرين الذين حبسوا عقولهم على ألفاظ السابقين من الفقهاء الذين رفضوا الاعتماد على الحساب ووقفوا عند ظاهر النص النبوي: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدورا له) وكذلك ما رواه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِين”.
ولو كان العلماء الأوائل بيننا الآن لتغيرت فتواهم بتغير الزمان والحال، وما فتح الله به على عباده من صنوف العلم والمعرفة، لا سيما وأن النصوص تسمح بذلك ولا تصادر عليه.
إن عامة من تمسكوا بالرؤية البصرية ورفضوا الرؤية الفلكية القطعية جعلوا الرؤية غاية لا وسيلة، وكأننا نتعبد برؤية الهلال بالعين المجردة، وليست هي الوسيلة المتاحة في حينها، فلم تكلف الأمة إلا بما في وسعها وهو الرؤية التي تحتمل الخطأ والوهم فهل ترفض الشريعة وسيلة أكمل وأضبط وهي الحساب القطعي الذي يعتمد على العلم الحديث الذي يقوم حسابات الفيزياء الفلكية ويستطيع به تحديد بداية الشهور ونهايتها وموعد ميلاد الأهلة لعشرات السنوات القادمة بنسبة خطأ قدرت بـ 100000 /1 في الثانية؟!
أما قوله صلى الله عليه وسلم (إنا أمة أمية).
قال الإمام ابن حجر: المقصود بها أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة.
وهل نستطيع أن نقول الآن نحن أمة أمية؟
أما الذين فهموا من الحديث النهي عن تعلم الحساب وتعاطيه فيلزمهم النهي عن الكتابة وتعلمها، وهذا خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أمر به من فك أُسارى بدر في مقابل تعليم أولاد المسلمين الكتابة.
ثم إن موقف العلماء الأوائل من رفض علم الفلك لا ينسحب على علم الفلك الآن، إذ كان في عصرهم الفلك قرين السحر والكهانة، والتخمين والتنجيم، بخلاف الفيزياء الفلكية التي تقوم على نظريات علمية وحقائق بحثية تخاصم الخرافة وأهلها، كما أن لها أقسام وكليات ومعامل ومختبرات وصلت بأصحابها إلى المجرات الأخرى، ولا علاقة لها بالتقويمات والأجندات السنوية (الروزنامة) التي كتبها أشخاص أو جمعيات فهي عبارة عن نقول من كتب قديمة ولا علاقة لها بالعلم الحديث لذا بعضها يخالف بعضا!
بل إن الإمام القرضاوي أخذ من هذا الحديث الدليل على العمل بالحساب الآن في دراسة له بعنوان: “الحساب الفلكي وإثبات أول الشهور” قال فيها: “إنا أمة أمية ” هذا الوصف علة والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، بمعنى إذا خرجت الأمة في مجموعها عن أميتها وصارت تحسب وتكتب وأمكن أن يتقنوا من العلم كثقتهم بالرؤية وأكثر، وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده ولا يرجعوا إلى الرؤيا إلا لمن استعصى عليه العلم.
وكان القاضي المحدث الشيخ أحمد شاكر قد سبق للكتابة في ذلك في ذي الحجة 1357 هجرية الموافق يناير 1939 م، أي قبل أكثر من 80 سنة من الآن في رسالة بعنوان “أوائل الشهور العربية” مبينا أن في السنة النبوية إشارة إلى اعتبار الحساب في حالة الغيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن غم عليكم فاقدروا له) وهذا القَدْر أو التقدير المأمور به يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه ويصل به إلى أمر تطمئن الأنفس إلى صحته، وهو ما أصبح في عصرنا في مرتبة القطعيات كما هو مقرر لدى كل من له معرفة بعلوم العصر.
ونقل الشيخ شاكر عن الإمام تقي الدين السبكي أحد كبار فقهاء الشافعية: “إن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود، وقال لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان والظني لا يعارض القطعي فضلا أن يقدم عليه.
ثم ذكر الشيخ شاكر أن الإمام المراغي شيخ الأزهر يوم أن كان رئيسا للمحكمة الشرعية العليا كان يأخذ برأي الإمام السبكي في ذلك.
ومن العلماء المعاصرين أيضا ممن يأخذ باعتبار الحساب الشيخ المطيعي ورشيد رضا وجمال الدين القاسمي وعلي الطنطاوي ومن أكثر المدافعين عن هذا الرأي الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا وله رسالة نافعة في القضية.
وسلفهم في ذلك من العلماء السابقين مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي الجليل الذي قال في قوله صلى الله عليه وسلم (فاقدروا له) أي بحساب المنازل.
وقال أبو العباس بن سريج من أئمة الشافعية: “إن الرجل الذي يعرف الحساب ومنازل القمر إذا عرف من الحساب أن غدا من رمضان فإن الصوم يلزمه لأنه عرف الشهر بدليل”.
وقال به أيضا من الشافعية القشيري والعبادي كما قال به ابن مقاتل وابن دقيق العيد الذي نص على:
“إذا دل الحساب على أن الهلال طلع في الأفق على وجه يُرى لولا وجود المانع كالغيم، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤيا بشرط اللزوم”.
وهذا هو المحز وبيت القصيد حيث تحولت الرؤية بالعين من وسيلة إلى غاية وأصبحنا جراء ذلك في خصومة مع العلم وقطعياته، وشابهنا من جرموا الأبحاث وحرقوا أصحابها وأصبحنا مع قتلة “جاليلو” في خندق واحد!.
لماذا نأخذ بالحساب في مواقيت الصلاة وهي أكبر خطرا من الصوم؟ ولماذا نعتمد على الآلات في تحديد القبلة ولا نكتفي بظل الشمس وظهور القمر؟
ولو تابعت من يرفضون التسليم للعلم القطعي في حساب ميلاد الهلال تجدهم يسلمون للعلم في تحليل الدم وقياس السكر، والكل يوافق على إجراء العمليات الجراحية وتناول الأدوية اليومية وفق تقارير علمية لا يعرف عنها شيئا تسليما لسلطان العلم، وتوقفوا عند ما تصح به العبادة لأن التقليد أسلم، وأقل تكلفة من مواجهة المتعصبين.
على العلماء أن يبصروا مواقع أقدامهم ويجتهدوا لأمتهم ولا يدوروا في فلك الساسة في منع الحساب والفلك، ولا يتذرعوا بمتابعة الأوائل الذين اجتهدوا لقضايا عصرهم، ولو شهدوا زماننا لكانوا أكثر الناس احتراما للعلم وتقديرا لثوابته، وهذه حلقة من حلقات انعتاق الأمة من تسلط الطغاة وأعوانهم على شعائرها، والعبث بشرائعها، وقد هُديتْ الجمهورية التركية إلى ذلك وسبقت إليه واعتمدت الحساب وخرجت من تيه الخلاف.
وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويأخذ بنواصينا إلى ما يرضيه.