الوضع الحالي في السودان يدع الحليم حيرانا، حيث تعقد المشهد وتشابكت خيوطه وتبدلت ملامحه.
وحتى يكون القارئ على ذكْر مما حدث، فقد ثار شعب السودان على ديكتاتورية البشير وتشبثه بالسلطة ثلاثين سنة كاملة، بعد أن وصل إليها على أكتاف الحركة الإسلامية التي تنكر لها واعتقل مؤسسها، ثم احتفظ بالر اية الدينية يرفعها في وجه خصومه، وباللافتة الإسلامية يقف تحتها ولا ينفذ من مقتضياتها إلا ما يرسخ دعائم حكمه، ويقوي أركان استبداده، لذا كنت من اللحظة الأولى مع تطلع الشعب السوداني إلى خلعه وعزله، لأن المبادئ لا تتجزأ، وحق الشعوب في الثورة على الفساد والاستبداد أصيل لا يتبدد، على خلاف توجه عامة الإسلاميين.
ولست نادما على ذلك حتى بعدما تحول مسار الثورة، وسقوط ثمرتها الأولى في حجر الشيوعيين الذين أظهروا حقدهم الدفين على كل مظاهر الدين تحت مسمى اجتثاث نظام البشير، والحقيقة أنهم لا يمثلون الثورة كما أن البشير لا يمثل الإسلام.
الشعب السوداني أقرب الشعوب العربية إلى الفطرة الإسلامية، وقادر على تمييز الغث من السمين، كما أن مبادئ الإسلام وأحكامه اختلطت بعاداته وتقاليده وثقافته.
ومن المفارقات العجيبة في “السودان الفريد” – سبق لي مقال بهذا العنوان – أن الكيان الشيوعي في السودان يملك واجهة براقة، ونخبة قوية، دون أن يكون له تمثيل على الأرض، أو قاعدة تتناسب مع ذلك الفحيح السام أو الضجيج المزعج، لذا وكعادة التيارات المدنية العربية أدركوا أنه لا بقاء لهم في الواجهة إلا بالتحالف مع العسكر والركوب على ظهر الدبابة!
ومن المضحكات أنهم اتفقوا مع الجيش على فترة حكم انتقالية مدتها ثلاث سنوات، أي ما يقارب فترة رئاسية كاملة دون مراعاة لكلمة “انتقالية” والتي كان أقصاها سنة لما تسلم الحكم المشير سوار الذهب “رحمه الله” ثم سلم السلطة بعدها لحكومة منتخبة باختيار حر ونزيه.
لكن قيادة الجيش الذين هم من تلاميذ البشير ورفاق دربه، ومنهم من صَعّده البشير دون علم أو دراسة أو خبرة سابقة اللهم إلا قطع الطرق، ظهر أن هدفهم البقاء في الحكم، وسقوا البشير من نفس الكأس الذي سقى منه أساتذته وإخوانه.
ووجد العساكر بغيتهم في المتصدرين للثورة، العطشى إلى خمر السلطة فاتخذوهم ستارا إلى حين بنفس طريقة العسكر مع التيار المدني المصري الذي التحق بالإسلاميين أخيرا في المعتقلات بعد زواج متعة مع السلطة، وشهر عسل لم يكتمل مع جنرالاتها.
حاول الخليط العسكري الشيوعي الذي يحكم السودان الآن أن يخفي صلته بمحور الشر ومعسكر الثورة المضادة، لكن انكشف الأمر، وأصبحت الفضيحة بَلْقاءَ مشهورة بعد لقاء عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني في أوغندا ببنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان المحتل، بترتيب من دولة الإمارات التي باتت مكتب علاقات خارجية للعصابة الصهيونية، ولم يفت البرهان كما ذكرت وسائل إعلام عالمية، أن ينسق قبل الزيارة مع مصر والسعودية قطبا التطبيع تضرعا وخُفية، والمسئولين عن ترويج خطة ترمب التي سمَّاها صفقة القرن، وأمر حلفاءه العرب بتسويقها والدعوة إليها مع علمهم بأنها ذل الدهر، وقرن الشيطان.
لذا حاولت حكومة “حمدوك” تحقيق مكسب سياسي بالتنصل من زيارة البرهان إعلاميا، وأنها تمت دون علم أو مشاورة دون استنكار للفعل نفسه، لكن سرعان ما عادت لتبين تفهمها لخطوة رئيس مجلس السيادة خشية أن يتربع قبلها على قلب إسرائيل، لأنه بات معلوما من السياسة بالضرورة أنها أقرب الطرق إلى قلب أمريكا ورضاها، ومن خلالها تصدر تعليمات الدعم السياسي المؤهل للبقاء في السلطة.
لم ينكر البرهان الجريمة ولم يتملص منها، لكن كرر نفس الحجة التي قالها أسلافه بأنه فعل ذلك من أجل مصلحة الفلسطينيين! وكأن الشعب الفلسطيني فقط هو الذي لا يعرف مصلحته ولا يسعى لخدمتها!
أعاد البرهان للأذهان صورة أنور السادات من جديد حتى أن مدير لجنة السياسة الخارجية السفير رشاد السراج استقال احتجاجا كما استقال إبراهيم كامل وزير خارجية مصر عندما اطلع على حجم الكوارث في كامب ديفيد، لكن الفارق أن السادات وصفه العرب بالخيانة، أما البرهان فهم من دَلّه عليها ومناه بذوق عُسيلتها حتى وقع في الرذيلة، وأصابه ما أصابهم من الجنابة السياسية التي لا يطهرها ماء النيلين.
هذه الانتكاسة المبكرة للثورة السودانية لن تستمر، لأن الثورات تنتصر بمجموع النقاط وتتابع الضربات، وشعب السودان قادر على صنع الفارق من خلال التصويب والتسديد، وكما خلع البشير كبداية مهمة في طريق التحرر الطويل، فعليه أن يرتب صفوفه ويتسلح لمعركة الوعي بأدواتها حتى يملك قراره، ويختار من يحكمه
دون تسلط من الجيش أو وصاية من النخب.