في مرحلة الإعداد لدرجة التخصص “الماجستير” في قسم الأديان والمذاهب بكلية الدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف كان د. نوح الغزالي رئيسا للقسم وعلما من أعلام الدعوة، وكان له شأن خاص في سمته ودَلِّه، وطريقة تدريسه وتعليمه، تغمده الله بواسع رحمته.
باغتنا يوما بتحديد موضوع البحث، واختار دراسة ظاهرة الإرهاب من خلال مقالات مسلسلة يوميا نشرتها جريدة الأهرام على مدار عام كامل، وهي عبارة عن كتابات متخصصة لباحثين من دول شتى، وكانت دهشتنا كيف تكون صحيفة يومية مصدرا لبحث في دراسات عليا؟ فأخذ يُعلمنا أن كل فن يؤخذ من مظانه، وأردف مازحا ليس كل الموضوعات ستجدونها عند الحافظ ابن كثير! وكانت جهود الباحثين الأجانب قد خَلصت إلى أن السبب الرئيس لما يسمونه “الإرهاب” هو مؤسسة الأزهر!
وانبرى للرد عليهم كتاب عرب بينوا أنهم أخطأوا المحز، وغابت عنهم الحقيقة، لأن الأزهر الشريف هو المؤسسة العلمية الرسمية التابعة للدولة، وهي من تعين رموزه وقادته، كما أن التيار الإسلامي ليس له حظ بين المنتسبين إليه، كالذي بين قطاعات أخرى كالأطباء والمهندسين والمحامين، وكان رد الخبراء الأجانب حاسما وقاطعا حيث قالوا: نحن نتحدث عن الكيف وأنتم أجبتم عن الكم، فيكفي لتغذية ظاهرة الإرهاب وانتشارها أن يُخَرج الأزهر في كل خمسين سنة واحدا من أمثال “عبد الحميد كشك” الذي وصل صوته إلى أرجاء المعمورة.
ومن خلال هذه الدراسة تعرفت على مدرسة “الأزهري الثائر” وتتبعت خريطة هؤلاء النُزّاع الذين خالفوا خط المؤسسة في صورتها الحديثة، وحاولوا أن يعيدوا صورة أسلافهم الأوائل الذين كانوا شرارة الثورة الأولى ضد كل محتل وغاصب، وفي صفوف المواجهة الأمامية في مجابهة كل ظالم وغاشم. حتى أن الفرنسيين لم يجدوا بدا من ضرب الأزهر بالمدافع، ثم العبث بخيولهم في أروقته، لكن النظام العسكري بعد 23 يوليو 1952 أفلح فيما فشل فيه الاحتلال الأجنبي، وحَوّل جامع العلم والثورة، إلى جامعة يرأسها موظف ولاؤه لمن أَتى به.
لكن بقيت روح التأبي على التبعية حاضرة جلية من خلال نماذج فريدة كانوا علامات فارقة على مستوى الأمة، وفي تاريخ الأزهر المنيف، من أمثال الشيخ محمد الغزالي وسيد سابق، ثم الشيخ يوسف القرضاوي وأحمد المحلاوي، ثم الشيخ عبد الحميد كشك وعمر عبد الرحمن، ثم الشيخ صلاح أبو إسماعيل وعبد الرشيد صقر.
ولا يخفى على من يطالع سير هذه الكوكبة الزاهرة والكواكب النيرة أنهم يمثلون اتجاهات فكرية متنوعة، واختيارات فقهية مختلفة، لكن الرباط الوثيق والخط الأصيل الذي يجمع الجميع هو انتسابهم إلى الجامع العتيق والمعهد العريق، واتفاقهم على مقاومة الظلم ومجابهة الطواغيت، والوقوف مع القضايا العادلة وتبني تطلعات الشعوب إلى حياة كريمة، والتعاطي مع القضايا العامة بروح الأمة بعيدا عن القُطرية الضيقة أو الحدود المصطنعة.
لذا كانت الحياة بينهم وبين الأنظمة الفاسدة والقيادات المستبدة جولات كر وفر، وسجن وقهر، وتعذيب وتشريد، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
احتفى التيار الإسلامي بأساتذة مدرسة “الأزهري الثائر” واتخذهم أئمة ورصّ خلفهم صفوفه، واستفاد من نسبتهم الأزهرية ومكانتهم العلمية، وإن ضاقت بهم بعض التنظيمات وأصابهم القلق، لما يتمتعون به من بريق وألق، لكن ذلك لم يؤثر على مسيرة هؤلاء الأعلام الذين أصبحوا ملء السمع والبصر، وحققوا مكانة عالمية، قبل عصر السماوات المفتوحة والقنوات الفضائية!
ولا يخلو جيل من الأزاهرة من قائم لله بحجة، وداع لاستقامة الناس على المحجة، واستطاع الرواد الأوائل في مدرسة الأزهري الثائر، من تهيئة من يحمل الراية بعدهم، ويكمل على نفس طريقتهم ومنهجهم، واضعين نصب أعينهم إلى جوار قضايا الأمة الكبرى، عودة استقلال الأزهر عن الدولة، والعمل على رفع يدها عن اختصاصاته ومخصصاته، وعودة تعيين رموزه بالكفاءة العلمية والأهلية القيادية، وليس التقارير الأمنية، حتى ترجع للأزهر مكانته، ولشيخه إمامته واستقلاليته التي جعلت الإمام الأكبر محمد مصطفى المراغي يقول يوما “لو أردت أن أعزل فاروق لفعلت”.
أُولَئِكَ آبَائي فَجِئْني بمِثْلِهِمْ….. إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ