حسني مبارك بين الشماتة والشهادة
فبراير 28, 2020كورونا بين التهوين والتهويل
مارس 13, 2020حتى أصبح محمد عمارة كادرا مهما ومنظرا للفكرة اليسارية ما أدى إلى اعتقاله قرابة ست سنوات مع التنظيم اليساري وكوادر الماركسيين في عهد جمال عبدالناصر
في قرية صَرَوة التابعة لمدينة قلين من أعمال كفر الشيخ في دلتا مصر ولد د. محمد عمارة عام 1931م وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن العاشرة، وأكمل مراحل تعليمه حتى تخرج في كلية دار العلوم التي تُدرس فروع الشريعة واللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة، وساهم في تكوينه العلمي ولفت نظره إلى القراءة والمداومة عليها، ثلة من الشيوخ والأساتذة الذين كانت تذخر بهم المدارس والمعاهد المصرية في مراحلها المختلفة، وكان من توجيه القدر له أن تَوافَق وفاة أحد أعلام قريته بعد تخرجه، وكان معروفا بشغفه بالكتب وشرائها حتى كون مكتبة ضخمة ضاق بها عقبه من بعده ! فاشتراها منهم بالتقسيط جارهم الشاب النابه محمد عمارة، وعكف على قراءة كل ما فيها وحفظ ما حوته من دواوين الشعر القديم والحديث، وكان جملة ما حوته أربعة آلاف كتاب في شتى فنون العلم والمعرفة حتى المترجم من اللغات الأخرى، وكانت هي الأساس العلمي الذي انطلق منه د. عمارة وأقام عليها صرحه وبنيانه.
ومع بداية انخراطه في الجامعة كانت مصر تموج بأحداث كبيرة جعلته يفكر في الانضمام إلى عمل منظم يستطيع من خلاله التغيير والتأثير، وكان أبرز من في المشهد وقتئذ جماعة الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة، وترجح لديه الاتجاه اليساري نظرا لاهتمامه بالإصلاح الاجتماعي بالتوازي مع النضال السياسي في حينها، حتى أصبح محمد عمارة كادرا مهما ومنظرا للفكرة اليسارية، ما أدى إلى اعتقاله قرابة ست سنوات مع التنظيم اليساري وكوادر الماركسيين في عهد جمال عبدالناصر، وتأخر عن إتمام تعليمه الجامعي حتى خرج من السجن في العام 1964 وكانت هي المحنة التي حملت له المنحة حيث اغتنم فترة الاعتقال في القراءة والكتابة، وظهر لديه أن حل المشكلات الاجتماعية ومحاربة الطبقية ليست في فكر اليسار أو التنظيمات الاشتراكية وإنما في النظرية الإسلامية، وكانت نقطة التحول إلى تبني المشروع الإسلامي والدفاع عنه، ويصف د. عمارة فكرة المراجعات الفكرية بأنها “من أخص لوازم الكائن الحي التي لا تنفك عنه، وأن الذين لا يراجعون أفكارهم هم الموتى فقط”.
ألف د. محمد عمارة خلال فترة السجن أربعة كتب كان من أشهرها كتاب “إسرائيل: هل هي السامية؟” و”مقارنة الفكرة الصهيونية بالخريطة الصليبية”.
ومن هنا بدأ تحديد مشروعه الفكري والعلمي الذي نذر له حياته متمثلا في التعريف بالإسلام ومجابهة خصومه، وكشف الواقع الذي نعيشه والعمل على أسلمته، وإزاحة التحديات والعقبات التي تقف في سبيل ذلك، وكانت قضية فلسطين والدفاع عنها أهم وأبرز الخطوط الفكرية في مشروعه حيث كانت أول خطبة خطبها عن فلسطين وكانت لم تحتل بعد! وفي عام 1948 نُشر أول مقال له بعنوان “جهاد” تحدث فيه عن واجب الدفاع عن قدس المسلمين وقضية فلسطين، كل ذلك في مرحلة ما قبل الجامعة فلما التحق بها كتب أول كتبه عن القومية العربية في مواجهة الخطط الأمريكية، وهي نبوءة مبكرة عن دور أمريكا في رعاية الاحتلال ووراثة بريطانيا في التمكين له!
عكف الدكتور عمارة على الكتابة والتأليف ونذر حياته للرد على تغول الأفكار المستوردة، وحملة التغريب المفروضة بالسنان والأقلام،
وتصدى لتعرية المستغربين من صرعى الغزو الفكري وضحايا الاحتلال الثقافي، وذكر أن ذلك كان يستغرق منه ثماني عشرة ساعة في اليوم، لذا رفض الانخراط في أي عمل وظيفي: (آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حرًا مشتغلًا بالعلم، وأن أكون كالجالس على “الحصيرة” لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها.)
عاش د. عمارة حياة الكفاف لم تتعلق نفسه الأبية بشيء من زخرف الدنيا، ولم يغير مسكنه البسيط المتواضع الذي زرته فيه، وكان قبلة لطلاب العلم والبحث الذين يجدون الترحاب عند طلب الزيارة وسعة الصدر وبسطة الوجه عند الحديث والنقاش، والتواضع الذي قل نظيره، ولم تكن له سيارة خاصة وإذا خرج استقل سيارات الأجرة، ولا يستعمل الهاتف المحمول!
كانت له معارك حامية الوطيس مع كل من يحوم حول حمى الإسلام، أو يفكر في النيل من جناب العقيدة
لذا ضاقت به الكنيسة المصرية وسعت للتضييق عليه، ومنع مقاله في صحيفة الأخبار لأنه كان يتعقب إصداراتهم التنصيرية، ومنشوراتهم الدعوية بحكم عمله في مجمع البحوث الإسلامية وعضوية هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ورئاسته لتحرير مجلة الأزهر التي حولها من كم مهمل يشتريها الناس وفاء للماضي، أو من أجل كتيبات الهدايا التي توزع معها إلى سفر عظيم وإصدار يترقبه الناس، جمع فيه بين الأصالة والمعاصرة.
لكن الذي أجج نار الخلاف بين عمارة والكنيسة طرحه الجريء وكرة اللهب التي ألقاها عندما قال: لماذا لم تظهر الفتنة الطائفية في مصر إلا مع تولي البابا شنودة؟ لذا كان يصفه المستشار طارق البشري (بالبلدوزر) وقال عنه الشيخ راشد الغنوشي: هو كاسحة ألغام، شديد البأس على أعداء الإسلام وغلاة العلمانيين.
وكتب عنه الإمام يوسف القرضاوي كتابا بعنوان: محمد عمارة الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام، وأهدى إليه الشيخ محمد الغزالي كتابه التفسير الموضوعي للقرآن الكريم وكتب له: إلى أخي الحبيب داعية الإسلام وحارس تعاليمه مع الدعاء.
استطاع د. محمد عمارة أن يضع اسمه بجدارة ضمن أسماء أساتذة الفكر وعمالقة التجديد، وأكمل مسيرتهم وأعاد تقديمهم إلى الأجيال الجديدة، فاهتم بإخراج الأعمال الكاملة للكواكبي والأفغاني ومحمد عبده، وأنصف قاسم أمين وأثبت توبة طه حسين وأوبته، وكتب عن حسن البنا ومشروعه، ومحمد الغزالي ومدرسته، وترك للأمة ذخيرة علمية وخريطة فكرية ومكتبة علمية زادت عن ثلاثمئة كتاب وبحث، ومع نجاحه في أن يكون راهبا في صومعة العلم، معتكفا في محرابه، ومتحنسا في خلوته، كان أيضا ثائرا ملتحما بقضايا الساعة إذا هتفت به الفوارس أو سمع هيعة المنادي، فكان من حداة ثورة الخامس والعشرين من يناير وهداتها، ولما انقلب العساكر على حلم المصريين، وقطعوا الطريق على الثورة ومنجزاتها كان د. محمد عمارة صاحب أقوى بيان صدر ضد الانقلاب تأصيلا وتفصيلا، ألقاه بنفسه في وسائل الإعلام جهارا بلا مواربة، علانية بلا مداهنة،
وهذا شأن العلماء العاملين والمفكرين المصلحين.