كورونا بين التهوين والتهويل
مارس 13, 2020مثلث كورونا
مارس 27, 2020في موسم الحج كنت أتذاكر مع الناس بعض فوائده في التربية والتزكية، ومن ذلك التخلص من آفة “إلف النعمة” فإن الإنسان الذي ينشأ فيها أو يتعود عليها يراها أمرا طبيعا أو قانونا لا يتخلف، فلا يشعر بقيمتها ولا ينشغل بالشكر عليها، ويكفينا الإحرام والزحام والخيام لنتذكر نِعَمَ الملبس والمأكل والخصوصية، وما أدراك ما الخصوصية والطقوس الشخصية، التي تنقطع مع بداية التلبية! ولك أن تطبق ذلك على كل ما ألفناه، وظننا أننا ملكناه حتى جاء المخلوق الذي لم نره، ولكن أفزعنا أثره، ليثبت أننا لا نملك شيئا، وأن دوام النعم من رحمة الله (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
وأن دوامها لا يكون إلا بشكره ورضاه (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
هتف كورونا بأهل الأرض (لمن الملك اليوم) ؟ حتى أجابه أبرار وفجار (لله الواحد القهار) !
اغتر الإنسان بعلمه واكتشافاته، وتجاربه ونظرياته، وظن أنه قادر على كل ما يريده لنفسه وذاته، فسلط الله عليه “كورونا” الفيروس الذي لا يرى بالعين، فجعله أثرا بعد عين! وأصبح سيفا مسلتاعلى الجميع، تنحني له الأعناق ويأخذ الرقاب.
ولو أن حكام الأرض وَعوا الدرس، وصَدَقوا في التوبة وطلب النجاة، فليبرهنوا على ذلك بفك رقاب السجناء والإفراج عن المعتقلين، لأن السجون تفتقر إلى أدنى درجات الرعاية والعناية، وفي بعض البلاد العربية بلغت أعدادهم عشرات الآلاف، مما يسهل انتشار الوباء واستفحال الخطر، وبذلك يصبح السجن أداة قتل، وليس وسيلة عقاب، وتنص لوائح إدارة السجون على أنه فى حالة حدوث الزلازل أو الحرائق أو الفيضانات، يتحتم فتح أبواب السجون وتفريغها، فارحموا من في السجن يرحمكم من في السماء.
أكتب هذه السطور وقد مر حدث لم يكن يخطر لعاقل ببال، حيث مر يوم الجمعة بلا خطبة جمعة، والمؤذن أذن بوقتها لكن الله لم يأذن للإمام بصعود المنبر، ولا للمصلين بالقدوم إلى بيته مبكرين أو متأخرين!
إن جملة “صلوا في رحالكم” التي ضٌمت إلى الأذان، انخلع لها القلب وصكت الآذان، وجعلتني أقول: تُرى ما الذي اقترفناه أَغْضبَ الكريم حتى منعنا من القدوم إلى بيته، فهتف بي القرآن الكريم ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِير).
وما انتهيت من الاسترجاع والحوقلة حتى سمعت جلبة وجدلا، وأخذا وردا، عن حكم ترك الجمع والجماعات، وانبرى من تسبقه عاطفته للاعتراض على منعها، مع أن فتاوى العلماء الثقات، كانت أسبق من قرارات الحكومات، ولابد هنا من توضيح أمرين:
الأول: أن النوازل العامة لا يستقل بالفتوى فيها فرد مهما اتسع علمه، وإنما مردها إلى المجامع الفقهية والهيئات العلمائية التي فيها خبراء يُوصَّفون الواقع ومن ثَمَّ يفتي الفقهاء عليه.
الثاني: لو اعتبرنا أن الخلاف في المسألة معتبرا، فإن اختيار الحاكم، فيما يجوز فيه الخلاف، يحسم الخلاف ويمنع النزاع، وكنت آمل لو اتحدت جهود العلماء والدعاة التي تبعثرت في القول بإقامة الجمعة في البيوت أو منعها، حول قضية من قضايا الأمة المركزية كالإفراج عن المعتقلين وحفظ حياتهم، أو مخاطبة الأغنياء بتعجيل زكاة أموالهم لمكافحة شبح الفقر الذي بات أسرع انتشارا من كورونا !
فقد اعتاد أهل الخير إخراج الزكاة في رمضان طلبا لشرف الزمان وزيادة الأجر، ومع ما يمر به الناس الآن من ترك العمل، والحاجة إلى وسائل مكافحة المرض، فإن تعجيل الزكاة أعظم أثرا، وأكبر أجرا من تأخيرها إلى موعد الحول، قال رسول الله (ﷺ): «العبادة في الهَرْجِ كهجرة إلي». رواه مسلم.
قال الإمام النووي: والمراد بالهرج هنا الفتنة وانتشار الخوف، واختلاط أمور الناس.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة من عمه العباس بن عبد المطلب قبل موعدها بعام لحاجة الناس إليها، وقال لعمر بن الخطاب: “إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام” رواه الترمذي.
تعجيل الزكاة الآن أحد واجبات المرحلة، وثوابها كمن هاجر إلى رسول الله في المدينة، وبها يُستدفع البلاء، ويوسع على الفقراء الذين لا يملكون ثمن الدواء، ويُضاعف الأجر من خزائن واسع الفضل، وهذا هو روح الشريعة الإسلامية التي قال عنها الإمام ابن القيم رحمه الله:
(الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل).
علينا بالاستغفار والاستبشار قال الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارا) وجاء في الحديث القدسي:
“أنا عند ظن عبدي بي”.
فلنحسن الظن به ولنخلص في التضرع إليه.
(رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ).