مع إتمام الشهادة الثانوية رغبت في الحصول على إجازة في قراءة حفص عن عاصم فدلني شيخي الأول، ومعلمي الأكبر الشيخ “عوض أحمد عبدالرحيم” على شيخه وأستاذه، شيخ القرآن والقراءات.
نزول القرآن الكريم في رمضان هو أبرز ما يميز الشهر الفضيل (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ)
وخُصت الليلة التي نزل فيها بمزيد من الفضل والشرف، والقدر والتكريم، حتى أضحت خيرا من ألف شهر (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)
لذا قَلّ من لا ينشر مصحفه فيه، أو يُكب على تلاوة آياته ومدارسة معانيه، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مدارسة القرآن وعرضه على جبريل في كل رمضان، أخرج البخاري بسنده عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة”.
ولو حُق لأحد أن يستغني عن المدارسة لكان رسول الله الذي قال له ربه: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) لا تحرك لسانك لتتعجل حفظه، إن علينا جمعه في صدرك وتعليمه لك.
مدرسة القرآن لا تنتهي فصولها، وطالب القرآن لا يقضي منه نهمته، ولا يستغني عن دروسه ومدارسة علومه مادام نَفَسه يتحرك في صدره.
وبما أننا بدأنا مع كورونا عصرا جديدا، فإني عدت إلى مدرسة القرآن من جديد، وتذكرت بداية عهدي بهذه المدرسة وشيوخ القرآن الذين أكرمني الله على أيديهم، والبداية كانت في قريتنا “مدرسة الطليحات الإبتدائية المشتركة” حيث انتقل شيوخ الكتاتيب للتحفيظ في المدارس، وكان من أشهر المحفظين وقتها الشيخ محمد علي حسن، وشهرته “الشيخ البطلان” ومعناها في الدارجة الصعيدية “النحيف النحيل” وأدركت الشيخ في كهولته، وقد تقدم سنه، وكان لينا سمحا، ظاهر الوضاءة، لا تخطأ العين سيم الصالحين عليه، تغمده الله بواسع رحمته.
ونظرا إلى عدم وجود معاهد إعدادية إلا في المدينة تحولت الى المعهد الأزهري في “طهطا” معهد “الشيخ محمود عنبر” نسبة إلى أحد كبار العلماء ومؤسسي التعليم الأزهري فيها، ودرس لي القرآن الكريم في سنوات الإعدادية الثلاث الشيخ “محيي الدين الريدي” من قرية “شطورة” وهي اسم على مسمى، حيث معدل التعليم فيها في أعلى مستوياته في شتى تخصصاته، لا سيما الأزهرية منها، على غرار قرية “بني عدي” في أسيوط التي لا يخلو بيت من بيوتها من أستاذ في الأزهر الشريف.
وكان الشيخ “محيي الدين” – وعلمت أنه مازال محفظا حفظه الله – رقيق القلب والحال، لا ينشغل بغير القرآن، ولا يُعاقب إلا على زيادة التقصير في الحفظ والمراجعة، إلا في مرة واحدة دخل لنا حصة إضافية لغياب المدرس الأساسي، وحتى لا يطالبنا بالمراجعة طلبت منه أن يشرح لنا قصة من قصص القرآن الكريم، ولبى رغبتنا حرصا على الفائدة، وشرح لنا قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وعند غياب مدرس آخر علمنا أنه سيحضر مكانه، فقررنا أن نطالبه بصوت واحد عند دخوله بإعادة شرح السورة، ففطن للمكيدة وقرر أن يجعلها حصة تسميع ومراجعة، بعد أن ضرب الفصل كله ضربا شديدا على غير عادته، متعه الله بالعافية.
وفي المرحلة الثانوية درسني في سنواتها الأربع الشيخ “العبد الصالح” وهذا اسمه وصفته، ولهذه التسمية قصة، فليس هذا من الأسماء المعروفة أو الشائعة، وكان على خلاف عادة محفظي القرآن لا يعرف الشدة، ولا يضرب أحدا، ولا يحمل في يده إلا المسبحة، أو عصا المشيخة، وغالب وقته مع ورده، وكانت لي عنده حظوة، لذا أسر إلى يوما فقال: لقد عزمت البارحة على النوم مبكرا، لأبدأ ختمة جديدة أختم فيها القرآن في ثلاثة أيام، فانتبهت على رؤيا أني أقرأ القرآن، واستيقظت وأنا أقرأ في سورة الأنعام، وأخبرتني زوجي أني بدأت القراءة من الفاتحة بعد نومي مباشرة ! وقد تجاوز “العبد الصالح” التسعين من عمره المبارك الذي لم يفارق فيه القرآن الكريم.
ومع إتمام الشهادة الثانوية رغبت في الحصول على إجازة في قراءة حفص عن عاصم فدلني شيخي الأول، ومعلمي الأكبر الشيخ “عوض أحمد عبدالرحيم” على شيخه وأستاذه، شيخ القرآن والقراءات، الشيخ “لطفي أحمد السيد” وكان قد تقاعد من التدريس في الأزهر من زمن، فهو من طبقة شيوخ شيوخنا، وقَبِلَ بتواضع جم، وحفاوة بالغة، لعدة اعتبارات منها أني زميل أوسط أولاده الذين تخرجوا جميعا في الأزهر الشريف، وتربطني بهم مودة، مع قرب المسافة والجوار حيث لا فاصل بين قريتنا “الطليحات” و”القبيصات” بلدة الشيخ، وهي بلدة الشيخ “العبد الصالح” أيضا .
كان الشيخ لطفي مشهورا بالصرامة في الحق، وعدم المداراة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظرا لأن غالب الأفراح في الصعيد تكون بقراءة القرآن، ومع انتشار ظاهرة القراءة في المحافل بالقراءات، وعدم التزام البعض بصوابها، كان في كل مرة يقوم إلى القارئ ويعرفه بنفسه، وسنة تخرجه التي غالبا ما تكون قبل مولده، ولا يزيد على كلمته المشهورة “اتق الله في القرآن” فيتصبب القارئ عرقا وخجلا، ويلتزم القراءة التي يجيدها فحسب !
كانت حفاوة فضيلة الشيخ لطفي بي ظاهرة، وإكرامه لي مخجلا، حيث كان يعاملني في كل مرة معاملة الضيف العزيز، ويقدم لي ما يقدم للزائر الكبير، لكن أثناء القراءة كأنه لا يعرفني، ويتعامل مع اللحن والخطأ على أنه من التحريف والتبديل لكلمات الله، مرددا في غضب “اتق الله يا شيخ” وأذكر أثناء قراءة قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ ) قرأت (ثلثا) ولم أُشبِع المد الطبيعي في الألف، فسمعها “ثلث” وكان يحتسي مشروبا فَغَصّ به، ولم ينتظر إكمال بلعه، وهو يقول: اتق الله تقلل ما فرضه الله؟! وكانت في يده “مِنَشَّة” لا تفارقه أبدا وهي من ليف النخل يهش بها عن وجهه، وله فيه مآرب أخرى، فمن حركتها نعرف علامات الوقف والابتداء، حتى مررنا بقوله تعالى: (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ )
فقال: لا بد من وضع “المنشة” في فمك لأخلص لك مخرج الضاد من اللام، وهمّ بذلك جادا! وأخبرني أنه لما أخذ القراءات على شيخه الشيخ “محمود خبوط” – أحد أشهر شيوخ الإقراء في الصعيد ومسكنه “طما” واجهة محافظة سوهاج، الذي قرأ عليه الشيخ صديق المنشاوي الأب، إلى د. سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق – أن زميلا لهم أجيز في قراءة قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) بعد ثلاثة أيام…! تغمدهم الله بواسع رحمته جميعا.
عدت الآن إلى مدرسة القرآن مرة أخرى، في رحاب علم من كبار أعلامها، والحديث عن هذه المرحلة موصول بإذن الله بعد الحصول على الإجازة، وتمام المنة بانكشاف الغمة.