قصة الجامع الأزهر بدأت سياسية من يومها الأول، عندما احتلت الدولة الفاطمية مصر، وقررت سلخها عن الخلافة العباسية، ومن العقيدة السنية، فعمدت إلى إنشاء مسجد جامع تنشر من خلاله عقائد الشيعة وفكر الرافضة، وأطلقوا عليه الجامع الأزهر، اشتقاقا من اللقب نفسه الذي أطلقوه على أنفسهم “الفاطميين.
استمر احتلال العبيديين لمصر أكثر من مئتي سنة حتى حررها صلاح الدين الأيوبي، الذي أدرك خطتهم في تغيير هوية الشعب وعقيدته، من خلال الجامع الكبير الذي تحول إلى جامعة موجهة، فأغلقه صلاح الدين ونقل الجمعة إلى جامع عمرو بن العاص، واستفاد من خطة الفاطميين، فأعاد افتتاح الجامع الأزهر بخطة سياسية أيضا، تقوم على نشر الدين الصحيح، والتصدي للآراء المنحرفة عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وتوجيه الناس إلى المسجد الأقصى والسعي في تحريره.
واستمر الأزهر الشريف يؤدي دوره العلمي والسياسي في تعليم الناس، وتثوير الجماهير ضد الظلم، وقيادة الأمة ضد أطماع المحتلين وسيطرة الغاصبين.
وكان من أبرز علماء الأزهر الذين وقفوا ضد المحتل، وقاد الجماهير لمقاومته، السيد عمر مكرم الذي اشتهر بلقبه لأنه من أشراف أسيوط، كما تولى رئاسة نقابة الأشراف، ثم ذاع صيته حتى أصبح رمزا شعبيا وقائدا ميدانيا، واستطاع أن يضم إليه مجموعة من العلماء أصبحوا قبلة الناس في الكرب، ومفزع الجماهير في الشدة، وأثمر جهدهم وسعيهم عزل خورشيد باشا الوالي الذي تكرر ظلمه للناس، وعبثه بأموالهم، وتولية محمد علي حكم مصر بدلا منه، بعد أن أخذوا عليه العهود والمواثيق بتحقيق العدل ونبذ الظلم، ومشاورة أهل العلم، لكن سرعان ما نكص محمد علي باشا على عقبيه، وانقلب على من أوصله إلى سدة الحكم، وأيقن أنهم يستطيعون خلعه كما فعلوا مع سلفه، وبما أن الشيخ عمر مكرم هو القائد والعقل المدبر فنفاه وأخرجه من القاهرة، ومن هنا بدأت السلطة تنظر إلى الأزهر ورجاله على أنهم من المناوئين، وأن التفاف الناس حولهم يمثل خطرا على حكمهم، وظلت العلاقة بين الأزهر والسلطة بين شد وجذب، حسب قوة شخصية العلماء وتماسكهم أمام فتنة الإغراء بالمال والوظائف، أو فتنة دس الخلاف وتفريق الكلمة، لكن على أية حال بقيت للأزهر مكانته، ولشيخه هيبته، وكان يلقب بشيخ الإسلام حتى قال الإمام مصطفى المراغي يوما “لو أردت أن أعزل الملك لفعلت”!
حتى حدث انقلاب الضباط في 23 من يوليو/تموز 1952 وعزلوا الملك، وتحولت مصر من الملكية إلى الجمهورية، ووضع جمال عبد الناصر في باكورة خطته تهميش الأزهر وانتقاص مكانته، فجعل تعيين شيخ الأزهر من سلطة رئيس الجمهورية، وكان اختياره من قِبل هيئة كبار العلماء، وألغى نظام الوقف، الرافد الذي كان يضمن للأزهر استقلاليته، وأمم الأوقاف وضمها إلى خزينة الدولة، فأصبحت تقدم للأزهر ومؤسساته الفتات وهو صاحب المال! كما ألغى القضاء الشرعي، وقضى على تميز التعليم الأزهري وخصوصيته، فأدخل فيه التخصصات العملية كالطب والهندسة، التي اتجه إليها أوائل الطلاب، وبقيت البقية للكليات الشرعية، ما أحدث تدهورا سريعا في مستوى خريجي الكليات الأزهرية، إلا من رحم الله من الثلة المباركة التي لا يخلو منها جيل، الذين اختارهم الله لحمل الأمانة والحفاظ على ميراث المعهد العريق، والجامع العتيق.
لكن يبدو أننا الآن في المرحلة الأخيرة من الحرب على الأزهر الشريف، بعد منع بعثاته الخارجية، والتضييق على قبول البعوث الوافدة، وتقزيم مكانته ودوره في الداخل، يسعى نظام السيسي إلى تهميش الأزهر بالكلية، وسلب اختصاصاته، وتحويل مشيخة الأزهر إلى صورة شكلية، ليس لها من الأمر شيء، وذلك بإنشاء كيان موازٍ لها، ينال من استقلالها ويأخذ من اختصاصها، من خلال قانون دار الإفتاء الذي أقره البرلمان مبدئيا، مع اعترض مشيخة الأزهر عليه رسميا، وأرسلت هيئة كبار العلماء خطابا بذلك إلى مجلس النواب، وصرح الشيخ محمد الضويني الأمين العام للهيئة أن البرلمان لم يوزعه على الأعضاء، وأن المشروع يزرع الفتنة والخلاف بين المؤسسات، وسجل اعتراض الأزهر على مشروع القانون الذي يخالف المادة السابعة من الدستور، وفيه تغول على اختصاص هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية، ومنازعة جامعة الأزهر، حيث ينص القانون على تخريج دفعات من المفتين تعتمد شهاداتهم من المجلس الأعلى للجماعات دون الرجوع إلى الأزهر وجامعته، وتنتقل تبعية دار الإفتاء إلى مجلس الوزراء، ويكون تعيين المفتي والتجديد له “بدون حد أقصى” من سلطة رئيس الجمهورية.
يأتي هذا تتويجا لجهود المفتي الحالي شوقي علام في التماهي مع النظام، وتمرير رسائله من خلال منصة الفتوى التي أصبحت أقرب إلى هيئة الاستعلامات أو مكاتب الدعاية، في الوقت الذي يحاول فيه شيخ الأزهر عدم الخوض في لجة السياسة، والنأي بالمؤسسة الدينية عن معتركها اللجب، مع التصدي بحكمة ضد العدوان على الثوابت، أو النيل من الأصول، ومحاولات التغيير والتبديل، تحت شعارات التحديث والتطوير، ونظرا لاعتبارات كثيرة داخلية وخارجية قرر الجنرال أن تكون معركته مع الإمام بمجموع النقاط، وليس بالضربة القاضية كمل فعل مع غيره، وذلك من خلال خطة قامت على ثلاثة مرتكزات:
1. الحصار الإعلامي ومحاولات التشويه، وهي المرة الأولى في تاريخ مصر التي يتم الاعتداء فيها على مقام شيخ الأزهر، ويُنال من مكانته.
2. إقصاء المقربين كما حدث مع وكيل الأزهر د. عباس شومان والمستشار القانوني د. محمد عبد السلام.
3. إنشاء كيانات موازية تفرغ الأزهر من مضمونه، وتنال من صلاحياته وهو ما يحدث الآن.
المعركة ليست مع شخص شيخ الأزهر الذي هو رجل دولة وليس رجل ثورة، وهو جزء من النظام وليس من المعارضة، ويقف على الطرف الآخر من الإسلام السياسي، وإنما هي حلقة من حلقات معركة المصحف، والعدوان على الهوية الإسلامية، يرجى من ورائها ألا تبقى للمسلمين هيئة جامعة، حتى لو كانت جامعة علمية لا تعارض النظام، لذا فإن الوقوف ضد هذه الحملة واجب على مسلم بما يملك من وسائل مشروعة، ولن تكون حملتهم أعتى من الحملة الفرنسية التي انقشعت عن مصر وذهب الجنرال وبقي الإمام.