لم نسمع عن السخرية من نبي أو مقدس ديني إلا إذا كان نبي الإسلام أو كتاب الله القرآن!
بل إن الغرب المتحضر الذي يخشى من تقلص مساحة حرية التعبير ولو بالإساءة إلى المقدسات، يجرم ويحرم التعرض للواقعة التاريخية التي تعرف بالمحرقة التي تعرض لها اليهود.
وعاينت من قبيل ذلك إبان إقامتي في ألمانيا تصريح الدولة لليهود بالذبح لأن عقيدتهم تمنع أكل اللحم غير المزكى، ولا يعطون نفس الحق للمسلمين!
إذن مشكلة القوم مع هذا الدين، ولديهم من الموروث القديم ما يجعلهم يبررون لأنفسهم التضييق عليه واضطهاد من يؤمن به، ونستطيع القول إن فرنسا دون غيرها من الدول الكبرى هي التي ترفع لواء معاداة الإسلام بغطرسة، وتعمل على الحد من انتشاره بجد، لاسيما وأن أكبر نسبة من المسلمين في أوربا على أرضها، حتى قيل إنهم تجاوزوا الخمسة ملايين.
ورأينا في السنوات الماضية كيف حولت قضية حجاب المرأة المسلمة إلى صراع عقدي، واعتبرت الحجاب رمزا دينيا ودعاية للإسلام.
قدمت بهذه التوطئة لأن البعض يغفلها عن عمد، لتحميل الشاب الشيشاني الذي قتل المدرس الفرنسي بعد عرضه رسوما مسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية الهجمة الشرسة التي شنها الرئيس ماكرون على الإسلام عامة، وعلى المسلمين في فرنسا بصفة خاصة.
مع أن دوي تصريح ماكرون عن أزمة الإسلام الذي كان قبل حادث القتل بأسبوع ما زال يقرع الأسماع، ويؤكد ذلك تصريح وزير الداخلية الفرنسي الذي أكد فيه على تأييده للرسوم المسيئة وعرضها في المدراس وأردف قائلا: قمنا خلال السنوات الثلاث الأخيرة بإغلاق 358 مكانا بينها مساجد وترحيل 428 أجنبيا.
بل وصل الأمر بباريس عاصمة الحريات إلى إغلاق مركز إسلامي لأن القائمين عليه كتبوا على صفحته استنكارا للرسوم المسيئة للنبي الكريم (ﷺ) بما يعني أن حرية التعبير مقصورة على الإساءة إلى رسولنا فقط، وليس للمسلمين حق التعبير عن استيائهم من ذلك!
إنها علمانية عوراء وخطاب متطرف سيعمق من أزمات ماكرون، ولن يحرز من خلاله إلا شوك الفتنة وثمار الغرور، وظهرت بوادر ذلك في الاعتداء على مسلمتين من أصول جزائرية “أمل وكنزة” تعرضتا للطعن أسفل برج إيڤل في صورة من صور العنصرية التي ينفخ في رمادها الرئيس الشاب، وتم تجاهلها من قبل وسائل الإعلام، ولم نسمع استنكارا من الأبواق العربية التي تسابقت إلى إدانة مقتل المدرس الفرنسي الذي كان يعلم تلاميذه السخرية من رسول الإسلام ﷺ تحت مسمى حرية التعبير، وفي حفل التأبين الذي أقيم للمدرس أكد ماكرون على تمسكه بنشر هذه الرسوم حفاظا على قيم الجمهورية.
متى كانت الإساءة إلى أنبياء الله أو مقدسات الآخرين من القيم، وكيف يَصدر هذا الخطاب المشبع بالكراهية تحت لافتة العلمانية الفرنسية وحق حرية التعبير؟ ويريد ماكرون من المسلمين بعد ذلك تقبل الإساءة إلى مقام النبي الكريم(ﷺ) بهذه الذريعة، في الوقت الذي لا يرى لهم وزير داخليته مجرد الحق في حرية أكل الطيبات من الرزق، لأنه يبغض جملة “طعام حلال” التي توضع على بعض الأطعمة، ويراها انعزالية إسلامية تهدد مقومات الدولة الفرنسية وتعمق الإسلاموية !
هل هذه هي علمانية فرنسا يا “أولاد فرنسا” ويا عشاق الفرنكفونية؟!
ومع هذا كله لا نعدم صوتا عاقلا أو كلاما متزنا من بعض المنصفين الفرنسيين وقليل ما هم، ومن ذلك تصريح وزير العدل الفرنسي: “هناك مبالغة من فرنسا في ردة الفعل على مقتل المعلم الفرنسي لأغراض انتخابية، وهو أمر غير لائق يثير الاشمئزاز ويأتي في إطار الشعبوية، وقال: بالكاد ما إن انتشرت المأساة حتى استخدمت لأغراض انتخابية” .
أما المفكر والباحث الفرنسي المتخصص في القضايا الإسلامية “فرانسوا بورغا” الذي عاش فترة من عمره لدراسة الإسلام على الأرض في بعض العواصم العربية، فيلخص القضية ويحدد طبيعة الصراع بقوله: “المسلم الطيب الوحيد – في نظر النخبة الفرنسية- هو ذلك الذي لم يعُدْ مسلماً”
وهو ما نص عليه قول ربنا تعالى وتقدس: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ )
وسطر ذلك مبكرا الأستاذ سيد قطب عند زيارته لأمريكا عام 1949 وكتب عنه في مقالات أمريكا من الداخل:” إن الاسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية، إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية وباء كالاستعمار، فكلاهما عدو، وكلاهما اعتداء”
وتابع قطب : ” الأمريكان وحلفاؤهم إذن يريدون للشرق إسلاما أمريكانيا يجوز أن يُستفتى في منع الحمل، أو في نواقض الوضوء، ولكنه لا يستفتى أبدا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي، ولا يستفتى أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية وفيما يربطنا من صلات.”
إن الحرب المستعرة على الإسلام الآن ليست أول المعارك ولن تكون الأخيرة، وشنآن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة كل أبي لهب، وشنشنة نعرفها من حمالة الحطب، وفي كل جولة يخرج الإسلام أصلب عودا وأنقى بريقا، وقد عوض الله نبيه بالكوثر، وجعل شانئه هو الأقطع الأبتر، ولله در الخطيب الإدريسي عندما قال: “إنّ الإسلام إذا حاربوه اشتدّ، وإذا تركوه امتدّ، والله بالمرصاد لمن يصدّ، و هو غنيّ عمّن يرتدّ، و بأسه عن المجرمين لا يُردّ، وإن كان العدوّ قد أعدّ فإنّ الله لا يعجزه أحد، فجدّد الإيمان جدّد، ووحّد الله وحّد، وسدّد الصّفوف سدّد.”