ولولا ما يُعرف عن أردوغان من خلفية إسلامية لأنسى الأتراك من كان قبله، ولأعلنوها مدوية أنه مؤسس الجمهورية الثانية ورمز تركيا الجديدة
المتابع لتحركات تركيا في الملفات الخارجية يدرك أنها استطاعت أن تضع قدما إلى جوار الدول الكبرى، وأنها أصبحت رقما يصعب تجاهله أو التقليل من تأثيره، كما تمكنت من إبرام تحالفات إقليمية ودولية جعلتها تستطيع تغيير مجريات الأحداث لمصلحة حلفائها وأصدقائها، حتى وُصف الرئيس التركي طيب أردوغان بـ “الصديق وقت الضيق”.
ومن خلال نظرة سريعة إلى آخر المستجدات على الصعيد الدولي يظهر هذا بجلاء، والمتتبع لما قامت به تركيا سيجد أن تدخلها إما لمناصرة مظلومين ونصرة قضية عادلة، كما حدث مع الشعب السوري الذي استضافت منه قرابة أربعة ملايين على أرضها، وأقامت شريطا حدوديا آمنا للسوريين على أرضهم، وتحاول بين الأمواج العاتية التخفيف من معاناتهم، أو تتدخل لمنع الظالم وحجزه عن ظلمه كما حدث في وقوفها ضد حصار قطر، ومنع أحلام العابثين من التفكير في اجتياحها، أو تدخلها لصالح الشرعية الدولية كما حدث في اتفاقية الدفاع المشترك وترسيم الحدود البحرية مع الحكومة الشرعية في ليبيا، ومنع قوات الجنرال المتمرد خليفة حفتر من اجتياح طرابلس، وأخيرا مساندة أذربيجان سياسيا وعسكريا لتحرير إقليم “ناغورني قره باغ” الذي تحتله أرمينيا منذ ثلاثين سنة، وقد تكلل هذا التحالف بالنجاح، ووقعت أرمينيا على الانسحاب ووقف إطلاق النار.
تركيا تمتلك كل مقومات الدولة القوية من اقتصاد متنوع، وحققت الاكتفاء الذاتي في كل ما يحتاجه المواطن من أساسيات، ووسعت دائرة التصنيع العسكري والصناعات الثقيلة لدعم ترتيبها العسكري المتقدم عالميا، بالتوازي مع نهضة علمية واضحة ودعم كامل للبحث العلمي، وتفوق ملموس في الإصلاح الزراعي والتخطيط العمراني، ويتوج ذلك كله حياة سياسية تقوم على التنافسية الحرة، وتعددية حزبية تعرض برامجها على الناخب الذي يملك كلمة الفصل في الاختيار والتعيين بداية من موظفي البلديات إلى رئيس الجمهورية.
ويعتبر رئيس الجمهورية الحالي طيب أردوغان هو أيقونة هذه النجاحات وعنوان قصتها، بما يملك من مؤهلات القائد الفذ الذي يحسن وضع الأهداف الكبرى ويعرف كيف يصل إلى تحقيقها، ناهيك عن السمات الشخصية وما يتمتع به من حضور لافت وكاريزما واضحة، ولولا ما يُعرف عن أردوغان من خلفية إسلامية لأنسى الأتراك من كان قبله، ولأعلنوها مدوية أنه مؤسس الجمهورية الثانية ورمز تركيا الجديدة، ولا يعدو أردوغان أن يكون أكثر من ذلك، فهو رئيس تركيا المختار بأصوات الناخبين، فلا هو بالسلطان ولا خليفة المسلمين، ولكن لا يمنعه وضع مصلحة شعبه وبلده نصب عينيه من التفكير في أمر دينه وشأن أمته، وإن كان لكل قائد أو زعيم مفتاح لشخصيته، فإن مفتاح شخصية أردوغان هو “الأمة” وقد بدا هذا واضحا في مواقفه السابقة، وموقفه الأخير من إساءة رئيس فرنسا إلى مقام النبي المكرمﷺ، وكيف كان قاسيا على ماكرون بما يتناسب مع حجم الجرم الذي اقترفه، حيث طالب بتوقيع الكشف على قواه العقلية، وكرر الطلب أكثر من مرة، مما جعل الخارجية الفرنسية تحتج رسميا على الإساءة إلى رئيسها ولم تعتبر ذلك من حرية التعبير بل قامت باستدعاء السفير !
ومع انطلاق حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية طالب أردوغان شعبه بتفعيل المقاطعة وهو القرار الذي لم يتخذه مسؤول غيره.
لكن دول الضرار، وإعلام الضرائر، يرون كل نجاح لأردوغان تعريضا بهم، وتذكيرا بفشلهم ومخازيهم، لذا تراه غرضا لسهامهم وحملات تشويههم، فإذا ذكرت موقفه من حصار قطر قالوا: من أجل أموالها، فإذا سألت عن وقوفه مع الصومال وسعيه لنهضتها وتسديد ديونها لدى صندوق النقد الدولي، قالوا يداعب مشاعر الجماهير ويلعب على عواطف المسلمين، وهو الجواب المستخدم مع كل قضية، فإذا كان الرجل يراعي مشاعر الجماهير المسلمة في كل أمر فلما لا تحبه الجماهير إذن؟
وأين حكامكم من الجماهير ومشاعرها، أم أنهم لا يعرفون المشاعر ولا يعترفون بالجماهير؟
لكن سطوة هذا الإعلام وسلاطته جعل بعض هذه الجماهير بل والنخب، يحرصون عند ذكر أردوغان على الوقوف على الحياد، خوفا من الألسنة الحداد، وقد سميته حيادا تجاوزا، وإلا فهو نكوص ونكول، وعجز عن المواجهة، وحرص على إيثار السلامة، ولو تعامل أردوغان بهذا الحياد الباهت لما أحرز كل هذه النجاحات التي خدمت دولا إسلامية وشعوبا مقهورة، ولما بقي وحده دون بقية قادة العالم الذي لم يعترف بالانقلاب العسكري، ولم يَمل من تذكير العالم بمقتل أول رئيس منتخب في تاريخ مصر.
لو كانت أهداف أردوغان مادية لكان في صف الإمارات صاحبة أكبر صندوق سيادي، ولأخذ من السعودية السخية مثل ما أخذ منها ترمب في مقابل السكوت عن قتل جمال خاشقجي.
وَضَع حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان ورفاقه خطة لنهضة تركيا وجعلها في مصاف الدول الكبرى، وبدأت تتضح ملامحها وتتحقق على الأرض، ويؤمن أردوغان أن هذه النهضة هي خطوة باتجاه رفعة الأمة، لذا على كل من يسعى لتحقيق هذا الهدف أن يوقن بأن أردوغان هو عنوان نهضة المسلمين، وهو المؤهل لحمل رايتها، وعلينا دعمه ودعم تركيا بكل ما نملك من أشكال الدعم دون مواربة أو تقصير، ومن كان في نفسه بقية شك مما قررته فليقرأ تعليق أردوغان على انتصار أذربيجان: “يشهد الله أننا كنا مخلصين دائما عندما قلنا إن الأذان لن يسكت، والعَلَم لن يُنكس، والأمة لن تقسم، والوطن لن يتجزأ، وبلادنا ستكبر ودولتنا ستقوى”.