مازال العالم الإسلامي يعاني من آثار حملة الكراهية التي شنتها الحكومة الفرنسية على الإسلام، ومحاولة النيل من مكانة النبي عليه الصلاة والسلام، والتضييق على المسلمين داخل فرنسا، وإزاء ثالوث العنصرية هذا لجأ المسلمون إلى سلاح مقاطعة المنتجات الفرنسية والمستمرة منذ ثلاثة أشهر، واحتل وسم المقاطعة صدارة وسائل التواصل الاجتماعي طيلة هذه المدة، أملا في أن تدرك فرنسا فداحة ما أقدمت عليه، أو أن يراجع الرئيس الفرنسي موقفه ويعتذر عن خطيئته، لكن كان شغل الإدارة الفرنسية الشاغل هو كيفية التأثير على حلفائهم لوقف المقاطعة، ولما عاد وزير الخارجية بخفي حنين رجعوا إلى سياسة التصعيد من جديد، فأغلقوا عددا من المساجد والمراكز الإسلامية، ووجهوا إلى أئمة المسلمين ميثاقا فيه جملة من المبادئ بقصد التوقيع عليها والالتزام بها، إعلاء لقيم الجمهورية ومبادئ العلمانية، وهي في الحقيقة دعوة لهدم الأصول وتغيير الثوابت، ومسخ الإسلام وتفريغه من محتواه، ليصبح إسلاما على الطريقة الفرنسية !
هذه المبادئ موجهة إلى الإسلام دون غيره من الأديان حتى أُطلق عليها “وثيقة المساجد”، ونصت في التوطئة والتمهيد على جعل قيم الجمهورية ودستورها أعلى من العقائد.
وأكد بندها الثاني على أن تقديم المبادئ على العقائد الدينية من متطلبات مبدأ المساواة واحترام القواعد العامة، وحذر البند الثالث الأئمة من الإفراط في الدعوة للدين لأن ذلك يؤذي الضمائر!
وأشار البند السادس بوضوح إلى أن هدف هذا الميثاق هو محاربة “الإسلام السياسي” وفسره بما يشمل كل من يعمل لهذا الدين أو يدعو إليه، ونص على السلفية والإخوان المسلمين والدعوة والتبليغ وجمعهم في بوتقة واحدة، ومن يلتحق بهم من التيارات القومية، مع أن جماعة الدعوة والتبليغ وعامة السلفيين لا يمارسون السياسية ولا يشتغلون بها.
وكشف البند السابع من ميثاق المبادئ أن من وضع هذه البنود هو من الدارسين للإسلام غير المحايدين بل من الناقمين عليه، حيث اجتهد في حمل أئمة المسلمين على الإذعان لهذه المبادئ، بداية من التنبيه على خطورة عقيدة الولاء والبراء، إلى التحذير من “الطب النبوي”!
يُظهر هذا الميثاق نظرة اليمين المتطرف للإسلام بعدما سيطر على المزاج الغربي
وهذه الأمثلة من بنود المبادئ أرسلها لي بعض الأئمة في فرنسا يسألون عن حكم التوقيع عليها، لاسيما والتوقيع بالاختيار، وأجبتهم بأن التوقيع قبول بهدم بنيان الإسلام من القواعد، ورضى بالانسلاخ من تعاليمه، ويَحرم ذلك على من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وقد أفتت هيئات علمية وعلمائية كبرى بوجوب التصدي لهذه الهجمة على ثوابت الإسلام، وحث أئمة المسلمين في فرنسا على عدم الانسياق خلفها، والمحافظة على دينهم وهويتهم، لاسيما وأن
هذا الميثاق يتعارض بشكل كامل مع المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الملزم لفرنسا، ولا ينبغي أن يُسمح لها بمصادرة حريات الآخرين المنصوص عليها في قانون حقوق الإنسان الدولي.
يُظهر هذا الميثاق نظرة اليمين المتطرف للإسلام بعدما سيطر على المزاج الغربي، حث يرى فيه عدوا تقليديا ينبغي التخلص منه، وأن يرجع أصحابه من حيث أتوا، كما ظهر ذلك في تعهد “خيرت فيلدرز” زعيم حزب الحريات اليميني المتطرف في هولندا، بإنشاء وزارة التطهير من الإسلام في حال فوزه بالانتخابات المزمع إجراؤها في 17 مارس/ آذار المقبل، ومنع المساجد أو قبول هجرة المسلمين!
وسبب اختيار هؤلاء الساسة لهذا الخطاب العنصري المتطرف أنه يداعب خيال قطاع كبير من المؤمنين به، ويغذي هذه النزعة ويعضدها تبني طائفة من رجال الدين والقساوسة له، ولا أدل على ذلك من التصريح الأخير لأيرونيموس كبير أساقفة اليونان الذي قال فيه: “الإسلام ليس دينا بل حزب يملك طموحا سياسيا، وأتباعه أناس حرب توسعيون”
هذا رأي صاحب أكبر وظيفة دينية في الكنيسة اليونانية، ومع ذلك لم يرد عليه وبقوة إلا تركيا على لسان رئيس الشؤون الدينية ثم وزير الخارجية، كما صدر رد من مشيخة الأزهر الشريف، وبيان من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكان يجدر بمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تحذو حذوهم في التصدي لهذا التعدي، كذلك الذين يهرولون إلى سراب السلام ويبشرون بالديانة الإبراهيمية الجديدة .
إن ما تسعى إليه فرنسا من وراء ميثاق المبادئ لا يعدو قول الله تعالى:
(وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى الله ِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)
وما صدر من كبير أساقفة اليونان الكبير هو ما أخبر به تعالى:
( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ ).