الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى الرجوع إلى الأهداف التي طالب بها الثوار، والنظر فيما تحقق منها حتى الآن، ولكن في زمن المختصرات يمكن أن يقال إجمالا أن الذي حدث يتلخص في إزاحة العسكري عمر البشير الذي كان يداري على استبداده وفساد إدارته برفع شعارات الإسلام، وتسليم الحكم لباقي العساكر من زملائه الذين تحللوا من الشعار الإسلامي، وتحالفوا مع رموز الشيوعية لمغازلة القوى المدنية، التي استطاعت أن تتصدر واجهة الغضب الشعبي والحراك الشبابي الذي شارك فيه كل أطياف الشعب السوداني.
وكانت البداية بالسعي إلى تطبيع العلاقات مع المحتلين لمقدسات المسلمين، ثم الإعلان عن علمانية الدولة
ومع أن فترة هذه الحكومة التي يرأسها عبدالله حمدوك فترة انتقالية، إلا أنها تسعى لتحقيق أكبر قدر من المكاسب التي تغير الهوية أو تنسف الثوابت، وكانت البداية بالسعي إلى تطبيع العلاقات مع المحتلين لمقدسات المسلمين، ثم الإعلان عن علمانية الدولة، في مصادمة واضحة لثوابت الشعب السوداني الذي هو من أقرب الشعوب إلى فطرة الإسلام، ومن أصدقها عاطفة مع الأشقاء الفلسطينيين، وإنْ تولى رئيس الوزراء كِبْر هذه الكبائر، فإن القيادة العسكرية التي تَرْأس حمدوك ووزارته، لا ترى بأسا في ذلك مادام يجلب لها الرضى الغربي ويطيل أيام بقائهم في الحكم، لاسيما وقد ظهر بعد سيطرة العساكر على السلطة في الجمهوريات العربية نسخة خاصة من العلمانية يمكن أن نطلق عليها “العلمانية العسكرية” التي حولت الملكية الوراثية إلى ملكية عسكرية يتوارث الحكم فيها أفراد الكتيبة بدلا من أفراد الأسرة، مع طبقة رقيقة من العلمانية لا تتعدى حدود التعدي على حدود الله، ومحاربة الإسلام وتعاليمه دون غيره من الأديان، ومما يؤكد أن العلمانية بوجهها الحقيقي المتمثل في فصل الدين عن الحياة، ليست مجرد فكرة تُعرض على المسلمين مع ترك الحرية لمن شاء أن يؤمن، ومن شاء أن يكفر، وإنما هو قهر وتسلط وفرض لا خيار معه، ولو قرأ هؤلاء التاريخ القريب لعلموا أنها نبت خبيث يُزرع في غير أرضه، لن يثمر إلا الشوك والحنظل، ولا يعود على صاحبه إلا بسواد الوجه كما حل بأساتذته وأسلافه من قبل.
المتابع لتصريحات الموتورين من الإسلام في السودان يستشعر أنها كانت تحت حكم الخليفة عمر الفاروق
لن يبلغ العلمانيون الجدد ما بلغه بورقيبة في تونس، ولا أتاتورك في تركيا، حيث توحشت العلمانية ووصلت إلى مرحلة الاستئصالية، وبعد خمسين سنة من الصراع المحموم، والمدعوم بالحديد والنار سقط المشروع العلماني في تونس بسقوط جبار قرطاج، وأصبح أذنابه يصارعون من أجل البقاء، ولا يحفظ عليهم مظاهر الحياة إلا أجهزة التنفس الخارجية!
أما تركيا فتجاوزت مرحلة التوحش إلى التعايش، وأصبحت العلمانية تُنتقص من أطرافها لصالح هوية الشعب الحقيقية، وثقافته التاريخية الأصيلة.
المتابع لتصريحات الموتورين من الإسلام في السودان يستشعر أنها كانت تحت حكم الخليفة عمر الفاروق، وليس المشير عمر البشير، وفي الوقت الذي تحيط بهم الكوارث من كل جهة سواء الاقتصادية أم المائية والحدودية، وبدلا من التفرغ لطموحات أثيوبيا وأطماعها، تفرغوا لحرب المسلمين في معتقداتهم ومقدساتهم، ولذا تصدت الروابط العلمية في السودان – أيدتها عدة هيئات علمائية إسلامية – للرد على ما أُطلق عليه إعلان المبادئ بين حكومة حمدوك “الانتقالية” والحركة الشعبية لتحرير السودان “قطاع الشمال”، وصدرت عدة بيانات في ذلك بينت أن تبني العلمانية وتطبيقاتها المشوهة وتسويقها بديلا عن الإسلام ردة واضحة وزندقة جامحة، وأن محاولة فرض ذلك على الشعب يفرض عليه أن يكون يدا واحدة في الدفاع عن دينه وهويته، وأن يبذل في سبيل ذلك النفس والنفيس.
لا يُخشى على السودان صاحب التاريخ الكبير، والسبق الفريد في الثورة على الظلم وخلع الظالمين، ولو خُلي بينه وبين الاختيار لن يبقى أحد ممن تصدروا المشهد بالغلبة، ووصلوا إلى الحكم بقوة صندوق الذخيرة وليس صندوق الاقتراع، ولكن الخوف ممن يملك الذخيرة ولا يعرف غيرها، وسعيه للانقلاب على الواجهة المدنية الشيوعية، ورجوع الحكم إلى العسكرية الخالصة كما حدث في الجارة الكبرى، ويصبح السودان في قبضة الجنرال عبد الفتاح الثاني، ويستبدل حميدتي بحمدوك.