عمرو بن هشام أحد رموز مكة الكبار، وأحد أصحاب الرأي والكلمة فيها، ولذا تكنى بأبي الحكم، وكان في الصدارة لمحاربة الإسلام والتضييق على رسول اللهﷺ وأتباعه، وهو أول من سن قتل المسلمين مخالفا مروءات الجاهلية، حيث طعن السيدة سمية أم عمار بن ياسر في موطن عفتها، فكانت أول شهيد في الإسلام، وحاز عمرو بن هشام لقب أبي جهل بجدارة، ثم لقبه رسول الله ﷺ بفرعون هذه الأمة، وختم حياته بالإصرار على قتال المسلمين في غزوة بدر، على غير رغبة من عقلاء قريش الذين قالوا: خرجنا للدفاع عن أموالنا وقد نجت مع أبي سفيان، ولا حاجة لنا في قتال محمد وأصحابه.
وقبل أن تستعر المعركة أو يحمى الوطيس حدث هذا المشهد العجيب، كما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضْلَعَ منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرتُ أنه يسب رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه، فقال: “أيكما قتله؟” قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: “هل مسحتما سيفيكما؟” قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: “كلاكما قتله”.
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي ﷺ يوم بدر: “من ينظر ما صنع أبو جهل” فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء.
ويروي ابن هشام أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، تفقد القتلى فوجده في الرمق الأخير فصعد فوق صدره، فقال أبوجهل: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم، وسأل قائلاً: لمن الدائرة اليوم؟ قال ابن مسعود: لله ولرسوله.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي عبيدة عن ابن مسعود قال: أتيت النبي ﷺ يوم بدر، فقلت: قتلت أبا جهل. قال: “آلله الذي لا إله إلا هو؟” قال: قلت: آلله الذي لا إله إلا هو، فرددها ثلاثاً، قال: “الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرنيه” فانطلقنا فإذا به، فقال: “هذا فرعون هذه الأمة”.
ويستفاد من هذه الآثار جملة أمور أهمها:
أولا: أن التعرض لمقام النبي الكريم ﷺ يؤذي مشاعر جميع المسلمين صغارا وكبارا، ويبقى في نفوسهم ويعتبرونه جريمة لا تسقط بالتقادم، وأنه كلما واتت الفرصة انبرى أتباعه للذود عن جنابه.
ثانيا: الذي جعل معوذ ومعاذ وهما من فتيان الأنصار يبحثان عن الانتصار لرسول الله ﷺ هو ما غرسه الآباء والأمهات في نفوسهم من توقيره وتعزيره ﷺ، ووجوب محبته ونصرته، والتعريف بأعدائه وشانئيه.
ثالثا: صاحب الإيمان الراسخ والعقيدة القوية لا يهاب سلطان الباطل ولا سطوة الطواغيت ولا يرى من هو أولى منه بخوض المعركة وتحقيق الهدف.
رابعا: اهتمام رسول الله ﷺ بمعرفة مصير هذا الفرعون، وكيف كانت نهايته وبماذا ختم له، ومعرفة الفتيين بذلك وحرصهما على حمل البشارة إلى رسول الله ﷺ.
خامسا: الأيام دول، والدول أيام، فقبل أعوام كان ابن مسعود معذبا مضطهدا من قبل أبي جهل وعصابته، واليوم يصعد فوق صدره!
سادسا: تفوق فرعون هذه الأمة على فرعون موسى في المشهد الأخير حيث حاول الفرعون الأول التوبة (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، أما فرعون قريش فظل على كبره وعناده، وخاطب ابن مسعود وهو في النزع الأخير بالتصغير والتقليل.
سابعا: إظهار الفرح بهلاك الظالمين، وحمد الله على استئصال شأفة المجرمين، حيث حمد رسول الله ﷺ ربه وكبر، لما تأكد من هلاك أبي جهل .
ثامنا: النصرة لرسول الله ﷺ متحققة، وجنابه محفوظ من قبل ربه (فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ. إِنَّا كَفَیۡنَـٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِینَ)، (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله).
ولكن بالنسبة لآحاد الأمة فرض وواجب، وباب اختبار وابتلاء، ورفعة درجات وزيادة حسنات، ويكفي من اشتغل بذلك قول رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت لما دافع عنه ورد على شعراء قريش فيما رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة قالت: “سمعت رسول اللهﷺ، يقول لحسان: “إنَّ روح القدس لا يزال يؤيِّدك، ما نافحت عن الله ورسوله”، وقالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “هجاهم حسان فشفى واشتفى”.
تاسعا: يرى البعض وجوب الإعراض عن هذه الإساءات وعدم الرد على أصحابها لأن في هذا نشرا للباطل وتعريفا بأهله، والواقع أننا لا نرد على إساءة مخفية أو باطل منزو، وإنما نرد على إساءة ظاهرة وفرية منتشرة، بعيدا عن توقيت ظهورها أو من يقف خلفها، لأننا ندين بذلك ونعده من أرجى أعمالنا، وفي الرد ردع على من تسول له نفسه، أو يوسوس له شيطانه بالتعرض لمقام رسول الله ﷺ، ولأن من أمن العقوبة أساء الأدب.
عاشرا: من ثرَّبوا على من تصدى للدفاع عن رسول اللهﷺ واحد من اثنين:
أحدهما: صاحب “أميتوا الباطل بعدم التعرض له” وهذا يصح فيما يتعلق بالأفراد والخلافات الشخصية، أما ما يتعلق بالمقدسات وأصحاب الهيئات فالرد واجب والردع مطلوب، وقد وقع أصحاب هذا الرأي فيما حذروا منه، وشاركوا في الحديث عن الباطل دون أن يكون لهم نصيب في نصرة الحق، ولو طبقوا كلامهم على أنفسهم لكان الصمت أولى بهم وأليق.
الثاني: من يقف أمام حملة لواء الدفاع عن رسول الله ﷺ ونصرته ويقلل من وسائلها المختلفة، كالرد ونفي الزيف ودحض الشبهة ومقاطعة المعتدي، شاهرا في وجوهم أن نصرة النبي ﷺ تكون باتباع سنته وتحكيم شريعته، وكأن أبواب النصرة الأولى تتعارض مع السنة أو تؤخر تطبيق الشريعة، أو لا يجوز الجمع بينهما، وليته بذل جهده فيما يعتقده، وترك الناس وما يحسنون، فكلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له.
تلك عشرة كاملة مستوحاة من صورة الصراع الأول بين الحق والباطل، والتي أسفرت عن مصرع أبي جهل، ويمكن تلخيصها في أن رحى الحرب دارت ولن تتوقف، وكما أن للباطل جنودا وأعوانا، فينبغي أن يكون للحق أنصار وفرسان، يلجمون الباطل ويكبحون جماح أهله، ومن ذلك ما رُوِّج مؤخرا زورا وبهتانا عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بأنه عين الأكاديمي الكويتي والداعية الشهير د. محمد العوضي مسؤولا عن لجنة “المثليين” بالاتحاد، وزوروا خطابا يحمل اسم الاتحاد وتوقيع شيوخه، وذلك من باب الطعن في علماء المسلمين، وضمن الحملة الشرسة على مقام العلم وإظهار أهله في صورة اللاهين والعابثين، حتى تذهب هيبتهم ومكانتهم من نفوس المسلمين، لكن الأمة تفرق بين الغث والسمين، وتعرف من حافظ على ثوابت الدين، ومن باع دينه بدنيا الآخرين.