فضل الله بعض مخلوقاته على بعض بل وفضل بعض الأزمنة والبقاع كذلك (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) وقال تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)
وعن عبد الله بن عدي قال سمعت النَّبيّ ﷺ وَهوَ واقفٌ بالحَزوَرةِ في سوقِ مَكَّةَ وَهوَ يقولُ: “والله إنَّكِ لخيرُ أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ الله إليَّ، ولولا أن أَهْلَكِ أخرَجوني منكِ ما خَرجتُ”
وثبت تفضيل يوم الجمعة عن بقية أيام الأسبوع، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهﷺ قال: “خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تِيبَ عليه، وفيه مات، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة، وما من دابة إلا هي مطرقة مصيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس والجن.” رواه مسلم
وهذا التفضيل ليس خاصا بأمة محمد ﷺ وإنما قانون رباني إلا أن الأمم الغابرة ضلوا عنه واختلفوا فيه وهدانا الله إليه، كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهﷺ قال:
“نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِنَا، ثُمَّ هذا يَوْمُهُمُ الذي فُرِضَ عليهم، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا الله، فَالنَّاسُ لَنَا فيه تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ”. رواه البخاري
وفي رواية مسلم، قال رسول اللهﷺ: “أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد،. وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المَقْضِيُّ لهم قبل الخلائق”.
وتسلسل الأيام يشهد لهذه الهداية، لأن الجمعة تسبق السبت والأحد، ولو كان الأمر ترتيبا محضا، واختيارا صرفا بلا توفيق، لكان للمسلمين يوم الاثنين.
أخرج الحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهﷺ: “سيد الأيام يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة.” وعند أبي داوود عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: “إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا على من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: كيف تعرض عليك وقد أرمت – أي بليت – قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. ”
الإذعان لتعظيم الله
تعظيم المسلمين ليوم الجمعة ليس من جنس تقديس اليهود ليوم السبت أو النصارى ليوم الأحد، وإنما هو الإذعان لتعظيم الله له، حيث جعله يوم اجتماعهم في بيته، وفيه شعيرة من أهم شعائر دينه، من أهملها أو قصر فيها طبع على قلبه، عن أبي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ رضي الله عنه أن رسول اللهﷺ قال: “مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ”.أخرجه الترمذي،
وفيه ساعة إجابة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه، وجعل له سورة كاملة في القرآن الكريم تحمل اسمه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
ومن هنا أخذ العلماء حرمة البيع والشراء أو الانشغال بأي عمل عن صلاة الجمعة، أما قبلها وبعدها فالعمل جائز والسعي مباح (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.)
وكان السلف الصالح يكرهون ترك العمل يوم الجمعة لئلا يقع شبه مع أهل الكتاب الذين أمرنا بمخالفتهم
“نقل المواق والحطاب والخرشي والدسوقي في شروحهم لمختصر خليل عن ابن عرفة أنه قال: الرواية كراهة ترك العمل يوم الجمعة كأهل الكتاب، ونقلوا عن الإمام أصبغ أنه قال: من ترك العمل استراحة فلا بأس به، وأما استنانا فلا خير فيه، وذكر ابن الحاج في المدخل أن العلماء كرهوا ترك الشغل يوم الجمعة، وأن يخص يوم الجمعة بذلك خيفة من التشبه باليهود في السبت وبالنصارى في الأحد، فيحذر من هذا كله، قال مالك رحمه الله: كان بعض أصحاب رسول اللهﷺ يكرهون أن يترك العمل يوم الجمعة، لئلا يصنعوا فيه كما صنعت اليهود والنصارى في السبت والأحد، وقال ابن رشد : وهذا لما روي أن رسول اللهﷺ كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب، وينهى عن التشبه بهم، وقال الحطاب في شرح المختصر عند كلام خليل على كراهة ترك العمل يوم الجمعة: يكره ترك العمل يوم الجمعة، يريد إذا تركه تعظيما لليوم كما يفعل أهل الكتاب، وأما ترك العمل للاستراحة فمباح، قال صاحب “الطراز” وتركه للاشتغال بأمر الجمعة من دخول حمام وتنظيف ثياب وسعي إلى مسجد من بعد منزل فحسن يثاب عليه.”
التنزيل على الواقع
وتفصيل المسألة وتنزيلها على الواقع يقوم على ثلاثة أركان:
الأول: أن اليهود والنصارى قدسوا السبت والأحد وامتنعوا عن العمل فيهما لاعتبارات دينية وطقوس تعبدية، وشريعة الإسلام تنهى عن تخصيص يوم الجمعة بعبادة معينة بعيدا عن الثابت أو المسنون، ومن هنا جاء كلام الأوائل في كراهية ترك العمل يوم الجمعة تفاديا للتشبه بهم، والحال الآن يشهد أن تعطيل العمل يوم الأحد تحديدا يخضع لأسباب اقتصادية وتنظيمية، وأن الغرب المسيحي الذي وهت علاقته بالدين وانقطع عن الكنيسة، ينظر إلى السبت والأحد على أنهما أيام راحة من العمل وتسوق للبيت، فلو طبقنا قاعدة المخالفة وترك المشابهة، لاخترنا يوما للراحة غير يومهم، وسبق كلام الفقهاء بجواز ترك العمل يوم الجمعة طلبا للراحة، وتفرغا لما فيه من أبواب الطاعة.
الثاني: تحقيق المسألة الآن ينظر إليه من زاوية جديدة، وهي أن ميدان المال والأعمال اتفق فيه على عطلة يستريح فيها الناس من أعمالهم ليستعيدوا نشاطهم، فأي يوم من أيام الأسبوع أولى من الجمعة بذلك عند المسلمين، لأن المسلم مطالب فيها بعبادة عظيمة هي بمثابة العيد الأسبوعي للأمة، وتحتاج إلى وقت وتهيئة واستعداد، كالغسل وقص الأظافر والاستحداد، بل حض رسول اللهﷺ على أن يكون لهذا اليوم ثياب خاصة، أخرج ابن ماجه عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول اللهﷺ يقول على المنبر: “ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته”، وروى ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللهﷺ: “خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار فقال: ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته”.
استراحة عمر
ثم كيف يحصل المسلم سنة التبكير للجمعة التي رغب فيها رسول اللهﷺ، وجعلها تعدل أبواب الصدقة، إذا بدأ يوم الجمعة بنصف يوم عمل؟ وكيف يحصل ساعة الإجابة التي هي هدية الجمعة إذا كان العمل بعد الصلاة؟ كما أن الأسر المسلمة جعلت من فراغ هذا اليوم بابا لصلة الرحم والتزاور بين الأحبة، فكيف يزاحم يوم الجمعة مع هذا كله بالخروج للعمل، ويفرغ يوم آخر؟!
لاسيما وقد رأينا في الغرب أو البلاد الإسلامية التي مازالت تحافظ على هذه العادة الاستعمارية، كيف أنهم يوفقون بين أعمالهم وأعمال يوم الجمعة بجهد جهيد، وبعضهم لا يفلح في ذلك أو يتخذها تكأة لترك صلاة الجمعة، ثم إن في المسألة أصلا يرجع إليه من عمل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، حيث سن لأصحابه الاستراحة يوم الخميس والجمعة كما جاء في الفواكه الدواني شرح رسالة أبي زيد القيراوني المالكي رحمه الله.
الثالث: لا يمكن أن نفصل تغيير العطلة من يوم الجمعة إلى السبت والأحد في دولة الإمارات عن سياقه وملابساته، حيث نشهد هرولة وتطبيعا مجانيا وعلاقات فجة، وتصرفات مبالغا فيها مع الكيان المحتل لقدس المسلمين، واحتفاء بعيد حانوكا- أحد أعياد اليهود – واشعال النيران له في شوارع ومتاجر الإمارات، في الوقت الذي تلغى فيه عطلة الجمعة لصالح السبت، ولعل ما قام به حاكم إمارة الشارقة من الإبقاء على عطلة الجمعة بالإضافة إلى عطلة الدولة الاتحادية في السبت والأحد ما يؤكد أن الذي حدث على غير رغبة ممن يهتمون بشعائر اليوم العظيم، وفي السياق نفسه وليس بعيدا عنه، تفتتح البحرين أكبر كنيسة كاثولوكية رومانية في شبه الجزيرة العربية، وتقيم لذلك احتفالا رسميا، وكأن الكاثوليك في البحرين بالملايين ولا أدري كيف أطلقوا عليها “كنيسة العرب” وهي للرومان الكاثوليك، وما عرف العرب الرومان إلا غزاة محتلين، كما أن للجزيرة العربية خصوصيتها الدينية حيث قال رسول اللهﷺ: “لا يجتمع في جزيرة العرب دينان”.