مصطلح الفتوى إذا أُطلِق انصرف إلى الإجابة على مسألة تتعلق بحكم شرعي، لذا قال الإمام القَرافي: “الفتوى إخبارٌ عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة”. وقال الجرجاني: “الإفتاء: بيان حكم المسألة”.
وعرّفها ابن حمدان الحراني الحنبلي بقوله: “تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه”. وقال ابن الصلاح: “قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى “.
الفتوى مكانها عند الله عظيم، تولاها الله بنفسه، كما في قوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ﴾ [النساء: 176]. وقال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ [النساء: 127]. وتولاها رسول الله ﷺ فكان المسلمون يسألونه ويفتيهم، وتولاها خلفاؤه من بعده فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا عَرضت له مسألة جمع لها المهاجرين والأنصار يستشيرهم، ثم تولاها بعد ذلك قلة من الصحابة، لعظم أمرها وخطورة مسؤوليتها، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: “أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ يُسأل أحدُهم عن المسألة فيردّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول”.
وروى الدارمي في سننه عن أبي موسى -رضي الله عنه- أنه قال في خطبته: “مَن علِم علمًا فليعلِّمْه الناس، وإياه أن يقول ما لا علم له به، فيمرُقَ مِن الدين، ويكونَ من المتكلفين”.
وبيّن الإمام محمد بن المنكدر مكمن هذه الخطورة: “إن العالم بين الله تعالى وبين خَلْقه، فلينظُرْ كيف يدخل بينهم”.
وقال الهيثم بن جميل: “شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري!”.
الرزيّة التي لم تخطر ببال
المُفْتِي مُخبر عن الله تعالى، ومُبلّغ عن رسوله ﷺ، وبقدر عِظم شأن الفَتْوَى وشرفها، يكون عِظم أجرها واشتداد خطرها، فهو مُوقّع عن رب العالمين كما قرر الإمام ابن القيم في سفره العظيم الذي سمّاه “إعلام المُوقعين عن رب العالمين”، وعنى بإعلام المُوقعين: أي إعلام القضاة والمفتين بالأصول والضوابط التي تُبنى عليها الفُتيا والحكم والقضاء، فهؤلاء يوقِّعون عن رب العالمين، يقولون: هذا حكم الله في هذه المسألة، سواء أكان القائل بذلك هو المفتي أم القاضي، لأن القاضي يفتي في ما يُعرض عليه، ويزيد على المفتي أنه يملك التنفيذ والإلزام.
وأكد ابن القيم -رحمه الله- أن: “مَن أفتى الناسَ وليس بأهلٍ للفتوى فهو آثِمٌ عاصٍ، ومَن أقرَّه مِن ولاة الأمورِ على ذلك فهو آثِمٌ أيضًا”.
لكن الرزيّة التي لم تخطر ببال أن المفتي أصبح همّه الآن وليّ الأمر ورضاه، غير هيّاب من غضب ربه ومولاه، كما يحرص ولاة الأمور على تقريب من يبيع دينه بدنياه. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت دور الإفتاء وهيئات كبار العلماء ألعوبة في أيدي الجهات الأمنية، وأضحوكة على القنوات الإعلامية، فيخرج أحدهم في مشهد تمثيلي على مسرح مع كاسيات عاريات، والآخر يلعب بالورق في المهرجانات ويدعو لها ويسوّق لما فيها!
وذلك كله مرصود ومقصود، للحط من مكانة العالِم، وما يمثله من قيمة دينية، من خلال شرف النسبة إلى الدعوة أو الإمامة. وتجتهد كل دولة في تسخير هيئة علمائها ودار إفتائها، أداةً سياسية في صراعاتها الداخلية والخارجية، وتحقيق مرذول أهدافها وأطماعها، وبما أن أرض الكنانة هي الشقيقة الكبرى وصاحبة أقدم المؤسسات العلمائية والإفتائية، فإن ما يصدر عنها لا عديل له ولا مثيل، حيث تفرغت دار الإفتاء والمنسوبون إليها، للتعليق على كل شاردة وواردة، مما لا علاقة له بالفقه، ولا يدخل في نطاق الفتوى، فتارة يشنون الغارة على مسلسل تركي، أو يعلنون غضبتهم “السياسية” على عودة الصلاة إلى مسجد آيا صوفيا، وتحظى تركيا ورئيسها الطيب أردوغان بمساحة واسعة على صفحات دار الإفتاء المصرية، الدار التي جلس فيها الإمام محمد عبده وحسنين مخلوف وسليم البشري وحسن مأمون، وكانت محط أنظار الباحثين والدارسين والمتدربين على الفتوى من شتى أقطار العالم الإسلامي، أصبحت تفتي الآن في أهمية مشاهدة مسلسلات رمضانية بعينها، وعيد الحب، أو تعلّق على اعتزال مطرب أو ممثل، وربما يُحسن القارئ الظن فيعتقد أنها تفتي دعمًا للفضيلة وقيمها، ونهيًا عن الرذيلة واللهو والعبث، لكنه لو طالع هذه الإصدارات -ولا أقول الفتاوى- سيدرك من البداية أنها خطابات موجهة لأغراض محددة، بعيدة عن الفقه والشرع، وليس عليها سِيْما العلم ولا لغة الفقهاء، وبلغ الأمر أن دار الإفتاء المصرية أجرت استبيانًا على صفحتها الرسمية سألت فيه الجمهور: هل تتوجهون بأسئلتكم الدينية إلى صفحة دار الإفتاء أم إلى مواقع الإفتاء الأخرى؟ وكانت النتيجة أن أغلبية من شاركوا في التصويت يعتمدون على الصفحات الخاصة بالعلماء الآخرين!
وذلك يؤكد أن المستفتي غالبًا ما يختار من يثق في دينه واستقلاليته، ولم تفلح محاولات تلميع هؤلاء وتصدّرهم، حتى بعد تغييب العلماء أو ترهيبهم.
لا يخلو زمان من قائم لله بحجة، ويحمل هذا الأمر من كل خلَف عُدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، لا سيّما مَن كتب الله لهم النجاة من أيدي الظالمين، وامتحنهم بالهجرة وسلّمهم، وهيّأ لهم من الأسباب ما يستطيعون به رد افتراءات المدلسين، ونفي زيف المرجفين، والصدع بكلمة الحق في وجوه المستبدين، وأعوانهم ممن اشتروا الدنيا بالدين، والتاريخ سيسجل آثار الجميع، وفوق ذلك إن ربك لبالمرصاد، وستُكتب شهادتهم ويُسألون.