رامي شاب فلسطيني ويحمل الجنسية المصرية، فهو ابن القيادي المعروف نبيل شعث الذي استقر في مصر مبكرًا، حتى أنهى تعليمه الجامعي وتزوج من مصرية، ثم تولى مناصب عدة في السلطة الفلسطينية منها كبير المفاوضين، ونائب رئيس الوزراء في حكومة أحمد قريع، لكن رامي تدور اهتماماته حول الشأن الحقوقي، ومن المتعاطفين مع ثورات الربيع العربي، وهذه أسباب كافية لتجعله معتقلًا في السجون المصرية، حيث قضى فيها أكثر من عامين ونصف، ثم أفرج عنه بعد تنازله عن الجنسية المصرية، وخرج من مصر إلى فرنسا حيث تقيم زوجته الفرنسية، التي بذلت جهدًا كبيرًا في التعريف بقضيته، وخلال هذا الأسبوع كان رامي شعث حديث وسائل الإعلام العالمية، حيث أجرى حوارًا مع صحيفة لوموند، ووكالة الأنباء الفرنسية، ومع كريستيان أمانبور في CNN، ثم استقبله البرلمان الأوربي وتحدث أمام أعضائه عن اعتقاله بلا محاكمة لمدة سنتين ونصف بتهم وهمية، وأسباب واهية، وعن وجود عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين وغير السياسيين الذين اعتقل بعضهم من أجل تعليقات ساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو لأن نقاط التفتيش المنتشرة في المداخل والمخارج، وجدت على جواله مقطعًا أو صورة تحمل طابعًا سياسيًا، وأكد وجود ظاهرة الإخفاء القسري التي تنفيها الحكومة المصرية، وأنه شخصيًا تعرض للإخفاء، وشاهد أعدادًا من المختفين قسريًا، وأن الشرطة في أماكن الاحتجاز تضع لكل واحد منهم رقمًا، وتتعامل معهم على أنهم مجرد أرقام، ونقل شعث للبرلمان الأوربي صورة من الواقع الذي عايشه خلال هذه المدة، من سوء المعاملة والتعذيب بالتعليق على الحائط لأيام عدة، وانعدام الرعاية الصحية وسط تكدس عدد من المعتقلين داخل الزنازين، وذكر أن العدد داخل زنزانتهم الضيقة وصل إلى ثلاثين شخصًا مما يجعلهم ينامون بالتناوب، ومن يعترض يعاقب بالحبس الانفرادي في غرفة ضيقة مظلمة، ليس فيها من مقومات الحياة شيء، وذكر أنه رأى زميلًا له وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة مفارقًا الحياة بعد حبسه في الانفرادي، ومع قسوة هذه المشاهد كان الضباط في منتهى القسوة والبلادة، ويقولون: لا توجد هنا قوانين، ونحن نفعل ما نريد!
الزيارة ممنوعة
زيارة المعتقلين ممنوعة بالكلية، وذكر رامي أنه خلال مدة اعتقاله لم تستطع زوجته زيارته إلا مرة واحدة بمساعدة السفارة الفرنسية، وفي حال السماح بالزيارة يتعرض الأهالي للإهانات والمضايقات، وكل ذلك يتم تحت غطاء قضائي يوفره بعض القضاة الذين ينفّذون سياسة مصلحة السجون والجهات الأمنية، لذا تحوّلت مصر حسب وصفه إلى “جمهورية الخوف والرعب”، ولفت رامي شعث أنظار أعضاء البرلمان الأوربي إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن السجون المصرية التي هي مقابر الأحياء، فيها أماكن للرياضة، ومسجد للعبادة، ومكتبة للقراءة، لكن لا يراها المعتقل، وأنه لم يدخل مكانًا منها خلال مدة اعتقاله، وإنما هي معدة فقط للزائرين من الحقوقيين والوفود الأجنبية!
وبعد هذه الشهادة المزلزلة من شاهد عيان أمام أكبر تجمع برلماني يمثّل كبرى الدول الديمقراطية، هل سيغير ذلك من سياسة دعم هذه الدول للحكومات المسؤولة عن هذا التعذيب الممنهج؟ ولو قلنا إن الإسلاميين شهادتهم مجروحة وحقوقهم مستباحة، فإن الدائرة اتسعت لتشمل قطاعات من الأبرياء لا علاقة لهم بالموالاة ولا بالمعارضة، ولكن في ظل جمهورية الخوف صار كل مواطن هو مشروع معتقل محتمل، بل استطاعت الأنظمة المستبدة ترسيخ حقها في اعتقال الأبرياء وإخفائهم، وصرنا نناقش الآن كيفية تحسين ظروف الاعتقال والسماح بالزيارة، أو دخول الأغطية أو الأدوية، وصارت المطالب تركز على حق المعتقل في البقاء في السجن دون تعذيب، لأن ما يرشح من أخبار عن صنوف التعذيب والتنكيل التي تمارس على المعتقلين في السجون العربية يشيب لهولها الجنين، ولولا شجاعة بعض الحقوقيين من أمثال رامي شعث، أو بعض الصحافيين الذين استطاعوا مغادرة مصر من أصحاب الجنسية المزدوجة، لما التفت الإعلام العالمي إلى هذه الجرائم تجاه قطاعات كبيرة من الأبرياء من شيوخ ومرضى وأطفال ونساء.
التنازل عن الجنسية
ولا نجد من المجتمع الدولي أو الدول الراعية لحقوق الإنسان تجاوبًا يتناسب مع هذه الفظائع، وعند حدوث ردة فعل محدودة، نلاحظ أنها انتقائية تركز على مشاهير، أو من لهم صلات بمراكز غربية، وكأن باقي المعتقلين ليس لهم من حقوق الإنسان نصيب! لاسيما وقد أرسى النظام المصري قاعدة من عجائب الدهر، عندما جعل التنازل عن الجنسية المصرية سببًا للخروج من السجن، ولا يملك ذلك إلا من كانت له جنسية أخرى كما حدث مع محمد صلاح سلطان الذي خرج لأنه يحمل الجنسية الأمريكية، وبقي والده الدكتور صلاح سلطان لأنه مصري خالص، وكأن الجنسية المصرية صارت عقوبة لأصحابها، ومبررًا للحكومة تفعل بهم ما تريد تحقيقًا للسخرية الشائعة: “دا المواطن بتاعي أفرده وأكويه وأنا حر فيه”!!
خروج أصحاب الجنسيات المزدوجة أو الأجانب من السجون، لا يدين الجانب المصري فقط فهو مدان على أي حال، ولكن يؤكد إدانة النظام الغربي “المتحضّر” لأنه أقر الانتقائية في حقوق الإنسان التي هي حق لكل إنسان، ولأنهم يملكون الضغط المؤثر، بدليل الحالات الفردية التي اهتموا بخروجها وانصاع الجانب المصري لذلك.
ولعل من المشاعر المتناقضة التي انتابتني أثناء شهادة رامي شعث أمام البرلمان الأوربي، هو الشعور بالارتياح لفضح عنابر الموت وسلخانات التعذيب، ومعه شعور بالأسى إلى ما وصلت إليه سمعة أم الدنيا.