تسارع وتيرة الأحداث، وسرعة وصول الأخبار، وتقاطع المصالح جعلت العالم فعليا قرية واحدة، لا يمكن لمن يعيش فيها أن ينأى بنفسه عن أحداثها، ولعل الغزو الروسي لأوكرانيا هو الحدث الأبرز الذي يشغل الناس الآن.
بدأت القصة بحصول أوكرانيا على الاستقلال عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفيتي التي كانت جزءا منه، وكانت وقتها ثالث كبرى الدول النووية في العالم، وقبلت تفكيك ترسانتها النووية في مقابل حماية أمريكية بريطانية ضد أي غزو تتعرض له، في ما عُرف دوليا بمذكرة بودابست، وإمعانا في الاستقلال عن روسيا رغبت أوكرانيا في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) تحت قيادة أمريكا، وهو ما اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تدخلا في نطاق نفوذه وتمددا على حسابه، فقرر غزو أوكرانيا لردها إلى بيت الطاعة، واجتاحها ضاربا بالعهود والمواثيق الدولية عرض الحائط، ومنتهزا تراجع أمريكا بعد هزيمتها في أفغانستان، وانشغال دول القارة العجوز بشؤونها الداخلية وأزماتها الاقتصادية.
فاقد الشهية
لم يخب ظن الدب الروسي حيث أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن بمنتهى الصراحة تخلّيه عن أوكرانيا وأنه لن يتدخل عسكريا، وبدا فاقدا لشهية الحرب بخلاف أسلافه الذين شنوا حربا دمرت العراق تحت غطاء دعاية كاذبة عن أسلحة الدمار الشامل، وحاربت قواتهم عشرين سنة وسط كهوف أفغانستان للقضاء على طالبان التي انتصرت عليهم ومعهم خمسون دولة.
وقرر بايدن أنه سيواجه الغزو الروسي إلكترونيا باستخدام الهجوم السيبراني، واعتماد حزمة عقوبات اقتصادية، مع أنها لم تُجدِ نفعا مع دول أقل وأضعف من روسيا، ولذا أعلن رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي بمنتهى المرارة أنه سيقاتل وحده، وأن زعماء الغرب تركوه بمفرده، وكانت ردة فعله تجاههم إلكترونية أيضا حيث ألغى متابعتهم على تويتر!
ليس شرطا أن تنحاز إلى طرف، أو أن تكون في أحد المعسكرين أو تشجع أحد الفريقين، ما دمت لست لاعبا رئيسا أو صاحب هدف، لكن لا يفوتك أخذ العظة واستخلاص الدروس والعبر، والتأكيد على القيم الراسخة، ووزن الأمور بميزان الاعتدال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ }.
لسنا مثله
ليس معنى أن رئيس أوكرانيا صهيوني الأصل والهوى، وأنه تعاطف مع جيش الاحتلال، واستنكر على أهل غزة حق المقاومة والدفاع عن النفس، أنني أرحب باحتلال أرضه وتشريد شعبه، فما الذي يميّزني عنه إذن؟ ولعل تجرعه مرارة الغزو وذل الاحتلال يجعله يعرف معنى الظلم، ولا يقف في صف الظالم.
إن ترويع الجار والاعتداء عليه من أكبر الجرائم في ميزان الإسلام، ثم إن السكوت على ما فعله بوتين أو تشجيعه دعوة إلى عودة غارات الجاهلية، وإحياء شريعة الغاب التي لا تعرف إلا منطق القوة، وحق البقاء والسيادة مكفول فيها لمن يملكها فقط، وهو المعنى الذي غاب عن أوكرانيا يوم تخلت عن سلاحها وهي في وسط الغابة، فمن تخلى عن سلاحه قُتل به.
سيفتح ما قام به بوتين شهية كل قوي لالتهام جاره والاعتداء عليه، ولعل خبر تحليق الطيران الصيني فوق تايوان يصب في الاتجاه نفسه.
كيف لا نضع في كفة بوتين ما يقوم به من خراب ودمار ودعم للطغاة في كل أرض وطأتها أقدامه، وإني لأعجب من وصف اجتياحه لأوكرانيا بالحرب العالمية الثالثة، لأنها حرب إقليمية داخلية بين جيران، كانوا شعبا واحدا إلى وقت قريب، ومازالت الروسية لغة معتمدة وعقيدتهم واحدة، إنما الحرب العالمية الفعلية هي التي يقودها بوتين في سوريا نيابة عن كل قوى الشر العالمية، ومن ينظر إلى نتيجتها من ملايين النازحين والقتلى والمعتقلين يدرك أنها حرب عالمية بامتياز، والنتائج على الأرض خير دليل، والمحتل القاتل في الحربين هو بوتين، وإن كانت حربه على سوريا بدعم الغرب ومباركته، وحربه على أوكرانيا طعنة في الظهر.
حسب المتحدث باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين شابيا مانتو: “وفقا لتقديراتنا، قد يفر حوالي أربعة ملايين شخص من أوكرانيا إلى دول أخرى إذا تصاعد الموقف أكثر” ولو أضفنا إلى هذا العدد قرابة عشرة ملايين سوري، سيحل بوتين في مقدمة قائمة أعداء الإنسانية، وأكثر من شرّد الآمنين في تاريخ البشرية.
ملامح العالم الجديد
من طرائف الحرب الروسية الأوكرانية أننا رأينا الغرب المتغطرس بقوته، ضعيفا أمام عنجهية بوتين وأحلامه القيصرية، وبدأت القوى العظمى تستخدم أساليب الدول الضعيفة من الشجب والاستنكار، بل الاستجداء واللجوء إلى الأمم المتحدة التي تملك فيها روسيا حق النقض “الفيتو” واستخدمته بعدد أوراق الشجر ضد حماية أطفال سوريا، وحفاظا على سفاح الشام، وبالفعل اعترضت روسيا وناصرتها الصين والإمارات!
هذا كله يعيد الاعتبار إلى مشروع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يؤكد دائما أن العالم أكبر من خمسة، في إشارة إلى الدول الخمس الكبرى المتحكمة في قرارات الأمم المتحدة، وليس من بينها دولة واحدة تمثل قرابة مليارين من المسلمين.
اتفق الجميع على أن العالم بعد كورونا غير العالم قبلها، وكذلك فإن غزو أوكرانيا سيمثل أولى مراحل هذا العالم الجديد بملامحه وتوازناته الجديدة، فقد تصعد قوى جديدة أو تعدّل من ترتيبها على حساب قوى أخرى، في مقدمتها أمريكا التي تلاحقت هزائمها وقلت هيبتها، ومعها أوروبا التي انتقلت من مرحلة القارة العجوز إلى مرحلة الرجل المريض.
السؤال: تُرى من سيرث التركة؟ ومن أعدّ نفسه ليكون أول الورثة؟ ومن سيبقى في مقاعد المتفرجين؟
وما فتئ الزمانُ يدورُ حتى..
مضى بالمجدِ قومٌ آخرونا
وأصبحَ لا يُرى في الركبِ قومي..
وقد عاشوا أئِمَّتَهُ سنينا
وآلمني وآلمَ كلَّ حرٍّ..
سؤالُ الدهرِِ: أينَ المسلمونا؟