جنازة مهيبة وحضور شعبي ورسمي للصلاة على الإمام يوسف القرضاوي في قطر، وخيمة عزاء ضخمة استقبلت وفودًا من كل قارات العالم التي زارها الشيخ القرضاوي وترك فيها أثرًا، فوجدت فيها من سلّم عليّ من الصين، ومن عزّاني من بنغلاديش، ومن قدم من إندونيسا أو حضر من تركيا وأوربا. وكانت قناة الجزيرة مباشر تنقل على الهواء ما يَصدق أن يقال عنه “أيام الوفاء لشيخ العلماء”، من خلال كلمات لقامات مختلفة من تخصصات متعددة، ثم بعدها بيومين استقبلت أسرة الإمام في إسطنبول المعزّين الذين لم يتمكنوا من القدوم إلى الدوحة، وكان الحضور عالميًّا باعتبار أنه لا توجد دولة عربية أو إسلامية إلا وله نخبة فيها، وأعداد الجماهير بها تُقدَّر بالملايين، حتى رأيت من يخرج من قاعة العزاء ليفسح لغيره ممن ينتظرون خارجها، وكان حضور فضيلة الشيخ كمال الخطيب من الداخل المحتل في فلسطين، لفتة وفاء وعرفان للإمام القرضاوي الذي لم يقدّم قضية أو مسؤولية على قضية الأمة المركزية، ونذر وقته وسخّر صوته وقلمه لتحرير الأقصى والمسرى.
وبعد لقاء أسرة الإمام في العزاء شعرت أن عزاء إسطنبول أقيم لمواساتي، حيث أُبلغت منهم أن الشيخ الوالد -رحمه الله- كان يطلب سماع رسالة المعايدة الصوتية التي أرسلتها إليه مع الأصحاب والتلاميذ، فيقولون له: لقد سمعتها قبل ذلك -ظنًّا منهم أنه نسي- فيقول: أعرف، ولكن أريد سماعها مرة أخرى، وكان مدير مكتبه د. حسن فوزي قد اتصل بي قبل أسابيع من وفاة الشيخ، وأخبرني أنه سأل عني، فقلت له: أنا في تركيا، ولو أعلم أني لو حضرت في أقرب طائرة سأنعم برؤيته لفعلت، فقال: لا أعدك بهذا لأن حالته الصحية غير مستقرة.
ولا أنسى يوم عودة برنامج “الشريعة والحياة” في رمضان، وهو البرنامج الذي أطل فيه على العالم عبر شاشة الجزيرة، ومازال متربعًا على قائمة الأعلى مشاهدة عربيًّا، أني شكرته في الحلقة فهو صاحب السنة، وأرسلت إليه المقطع من باب العرفان، فإذا به يقول: أنا سمعت الحلقة كاملة، وأثنى بما يُعرف عنه من تشجيع الصغير، وشحذ همم التلاميذ ورفع معنوياتهم.
الرمز القرآني
بعد وفاة الإمام يوسف القرضاوي بأيام، توفي العالم الرباني والرمز القرآني الشيخ أسامة عبد العظيم، أستاذ علم أصول الفقه بالأزهر الشريف، ورئيس قسم الشريعة في كلية الدراسات الإسلامية والعربية، وكان فضيلة الشيخ أسامة نسقًا فريدًا وحالًا عجيبًا في الزهد والصبر على العبادة، والارتباط بالقرآن الكريم على كل حال، واشتهر مسجده العامر المكون من عدة طوابق في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة بأنه مدرسة عبادة وتربية، وانتهج طريقة في ختم القرآن في الصلوات الجهرية، ولولا أننا من شهودها وتواترت شهادات الآلاف من حضورها لوصِفت بالمبالغة، حيث كان يصلي العشاء بسُور البقرة وآل عمران والنساء، وربما بدأ في المغرب بسورة المائدة لأن له مع القرآن عدة ختمات، وهذا الحال في الأيام العادية، أما في شهر رمضان فيستمر القيام حتي قبيل الفجر، وصلى في إحدى ليالي الشهر الفضيل بداية من سورة طه حتى سورة الناس أي قرابة نصف القرآن الكريم، وبلغ عدد ختماته في الصلاة 2400 ختمة، ولتقريب الصورة دعني أخبرك: إن كنت تقرأ 6 أجزاء في اليوم الواحد فهذا يعني أنك ستصل إلى هذا الرقم في 33 سنة، أما إن كنت تختم كل ثلاثة أيام فتقرأ 10 أجزاء في اليوم، فستصل إلى هذا الرقم في 20 سنة، وختمات الصلاة مشهودة، أما ختمات القراءة والتلاوة فكانت بينه وبين ربه، وكنا نلقاه تقريبًا كل يوم أثناء الدراسة في جامعة الأزهر، ولا تنكر العين ضياء القرآن ولا بهاء القيام، مع زهده في ملبسه وتواضعه في مركبه وحاله، وقد رُزق حافظة واعية نادرة، فلا ينسى من درّس لهم واختلط بهم، ويذكرهم بحالهم وأسمائهم، إن كانوا ممن لهم معه حال.
عالِم الزهاد
لم يكن تفرّد الشيخ أسامة عبد العظيم في الزهد والعبادة فقط، حتى وصِف بأنه زاهد العلماء وعالِم الزهاد، بل تفرّد أيضًا في طريقته ومدرسته، حيث كان نمطًا سلفيًّا يختلف عن بقية المدارس السلفية، وإن اجتمعوا في الأصول العامة، إلا أنه كان لا يظهر في وسائل الإعلام ولا ينشغل بغيره من المدارس، وما ارتضاه مسلكًا خاصًّا لنفسه، جعله أساس مدرسته وورثه تلاميذه، وبطبيعة الحال هو أبعد ما يكون عن فكرة الثورة ومحاولات التغيير، ولا يرى إلا الانشغال بالعلم والتربية العلمية، لذا كانت مدرسته قاصرة على تلامذة مسجده وطلابه المقربين منه في جامعة الأزهر، أما من عداهم فكانوا زوارًا للتعرف على صورة الزهد والعبادة التي سمعوا عنها في سِير السلف الصالحين.
وبعد وفاة الشيخ أسامة عبد العظيم، خرجت حشود غفيرة في جنازته، مع أنه لم يكن مشهورًا إلا في أوساط العلماء وطلاب العلم، ولعل هذا مما جعل الدولة تقدّر أنها ستكون جنازة على هذا المستوى المحدود، لكن الشعب المصري له طريقته الخاصة في التعامل مع الجنائز بصفة عامة، ويرون أن اتباع جنائز العلماء هي آخر بركاتهم على ظهر الأرض، وحمل منظر هذه الحشود الكبيرة رسائل كثيرة، منها أن هوى العامة مع العلم وأهله، وأن رموز الدعوة والتربية لهم مكان التوقير والتبجيل، وإن تعددت حملات التشويه والتقليل.
وقفز إلى الأذهان سؤال: إذا كانت هذه هي جنازة الشيخ أسامة عبد العظيم الذي يفر من الشهرة والإعلام فراره من المجذوم والأسد، فكيف لو كانت جنازة الشيخ يوسف القرضاوي في القاهرة، وهو أشهر علماء المسلمين في القرن الحالي؟
بين الجنازتين
أما وقفتي الخاصة بين الجنازتين فكانت وقفة أزهرية تأملية، وهي أن هذا الصرح الشامخ على مدار التاريخ “الأزهر الشريف” انضوى تحت رايته مدارس مختلفة، استوعبتها رحابته وعالميته، ففيه القرضاوي الإمام الثائر، والشيخ المتفاعل، والفقيه الطائر، والاجتماعي الباهر، والأديب الشاعر، صاحب القلم السيال والمجدد في أكثر من مجال، وكذلك أسامة عبد العظيم العالِم العابد، والفقيه الزاهد، الذي انقطع عن الدنيا وتفرّغ للعلم والعبادة، ومن فضل الله علينا أننا دخلنا المدرستين وتتلمذنا على المنهجين، ولكلٍّ وجهةٌ هو مُولّيها، وكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلقَ له، ورحم الله شيوخنا وأئمتنا أجمعين.