انتصف شهر الصيام، وكل من يقرأ جزءا في اليوم أو يصلي التراويح خلف إمام يختم في القيام، قرأ اليوم أو سمع الجزء الخامس عشر من القرآن الكريم، وبدايته سورة الإسراء أو سورة بني إسرائيل، وسميت بذلك لأنها قصت رحلة النبي الأكرمﷺ عندما أسري به إلى المسجد الأقصى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. (الإسراء /1).
كما أنها تذكر تاريخ الصراع مع بني إسرائيل وطبيعته، وتبين محدداته ونهاياته {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}. (الإسراء/7). وليس المقصود من تلاوة القرآن وختم المصحف مجرد العبادة وتحصيل الأجر، وإنما الانطلاق إلى ساحة العمل والتطبيق، فإن صلاة رسول الله ﷺ إماما بالأنبياء في المسجد الأقصى، أعلنت عن ميراث النبوة وإمامة الدنيا بكلمة الوحي الأخيرة لأهل الأرض، وهذا يجعل التبعة على أتباعه كبيرة والمسؤولية عظيمة، مسؤولية منع تدنيس المقدس، وفك أسر المسرى المشرف، وهي مسؤولية كل فرد من أفراد الأمة، بموجب ما له من سهم أو نصيب في هذا الميراث الشريف، فإن كان الواجب على الفلسطينيين الرباط والمواجهة، فإن الواجب على الأمة الدعم والمساندة، بكل وسائل الدعم الممكن ماديا وعلميا وإعلاميا، ولا نغفل سلاح الدعاء، فإن دعاء السحر سهام القدر.
حلقات الصراع
المتابع لحلقات الصراع مع عصابة الاحتلال يجد أنهم في كل رمضان يؤججون نار الحرب، ويُسعِرون لهيب العداوة، ويجعلون من اقتحام المسجد المبارك ومحاولات تدنيسه مقدمة أولوياتهم، وفق خطة مدروسة لنسف معاني القداسة عن الزمان والمكان في نفوس المسلمين، فهم لا يقيمون وزنا لشهر الصيام، ويرون أن إقامة هيكلهم تأتي على أنقاض بيت الله، وفكرة التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى ما هي إلا مرحلة حتى يتمكنوا من هدمه بالكلية، لذا استقر عند علماء السياسة الشرعية أن الاعتكاف لأهل فلسطين في ظل الظروف الراهنة يرتقي إلى درجة الواجب ويبقى مسنونا في شأن بقية الأمة.
الاقتحام الأخير للمسجد الأقصى، ومنع الاعتكاف فيه واعتقال المعتكفين، أسقط حجة المطبعين الذين ادعوا زورا أن تطبيعهم لصالح الفلسطينيين، فلم يحققوا مصلحة واحدة، حتى من باب التغطية على إفكهم وما كانوا يفترون، بل رأيناهم يتبادلون التهاني مع قادة الاحتلال بأعياد الفصح ورمضان، ولو كان عند القوم بقية من كرامة أو إيمان، لتمعرت وجوههم لتدنيس المسجد الأقصى والاعتداء على الحرمات، حتى بيانات الشجب نالها الحجب، وما ظهر منها جاء خجولا يعبر عن قلق أو يعرب عن أسف، ولو كان التعامل مع المسجد الأقصى من منظور تاريخي أو حضاري، أو باعتباره أحد المعالم الأثرية، لتحركت له ضباع الأرض ومنظمات حقوق الأحجار والآثار!
الجولة الأخيرة
ومن زاوية أخرى فإني أرى المعركة في جولتها الأخيرة، وأن العالم على أبواب مرحلة جديدة، والطبيعة الدينية للمعركة لن تراوح الميدان، أو تغيب عن الساحة، فإن كان القوم يعتقدون أن دولتهم لا يزيد عمرها عن ثمانين سنة، وهو ما يؤكده التاريخ، وبدأ يتردد بوضوح على ألسنة قادتهم ورموزهم، فإننا أيضا على وعد بتجديد جديد، يأتي لأمتنا على رأس كل مئة سنة، قد أظلنا أوانها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: “إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”. رواه أبو داود.
والواقع يشهد أن قيام دولة الاحتلال جاء بعد عقدين من سقوط خلافة الإسلام، وبذلك تتحد العدة، وتتوافق المدة، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. (الأعراف/167). ولم يبق على ذلك إلا النزر اليسير، وما ذلك على الله بعسير.