ما ظهر على السطح في الآونة الأخيرة من اختلاف داخل معسكر الاحتلال الصهيوني، يعطينا مثالًا واضحًا لقول الله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ۚ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}. (الحشر: 14)
ويبقى شأن أصحاب الأرض وكيفية الخلاص منهم أو السيطرة عليهم، من المُجمَع عليه في دوائر الاحتلال، ولا يوجد بينهم اختلاف على الأهداف، إنما يقع التباين في الطرق والوسائل.
تتحرك حكومة الاحتلال وفق خطة مُعدَّة، بتوقيتات زمنية محددة، تختلف باختلاف المكان والزمان، فرأينا في شهر رمضان المعظم جنود الاحتلال وقطعان المقتحمين، كيف يحاولون تعكير صفو العبادة في الشهر الفضيل، وتدنيس المسجد المقدس في ليالي القدر والشرف، ثم تتحول آلة الإجرام بعد رمضان للتصفية والاغتيال، داخل قطاع غزة وفي المخيمات، في محاولة لفصل ميادين المعركة والتعامل مع كل منطقة على حدة، لكن رجال المقاومة في كامل اليقظة، ونطقت الأحداث الأخيرة بأن عامة الشعب الفلسطيني على قدر المسؤولية، وأن كتائب مقاومة المحتل أعلنت عن نفسها من كل مكان.
تحرير الأرض
شعب فلسطين مُطالَب بتحرير أرضه، شأنه في ذلك شأن كل الشعوب الحرة على مر التاريخ، كما أنه يضطلع بمهمة كبرى نيابة عن الأمة الإسلامية، لكونه في خط الدفاع الأول عن قدس المسلمين، ومسرى النبي الكريم ﷺ، وهذا يُحتم على المسلمين جميعًا رفدهم ومعونتهم من ناحيتين، الأولى: تحقيقًا للأخوة الإسلامية، ونصرة للمظلوم في استرداد حقه كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة، فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة” رواه البخاري. وأخرج أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله ﷺ: “المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم”.
والناحية الثانية: أن أرض فلسطين أوقفها عمر بن الخطاب بعد فتحها، فهي أرض موقوفة على كل المسلمين، لا يجوز بيعها، أو التنازل عن جزء منها، وكل مسلم مكلف بحمايتها والذود عنها.
معه غالب قوى الشر
وإذا نظرنا إلى العدو الغاصب سنجد أن غالب قوى الشر العالمية تعضده وتسانده، والدول الإسلامية إما نأت بها الجغرافيا، أو انشغلت في قضايا داخلية، أما الدول العربية فمنهم من قضى نحبه في التطبيع ومنهم من ينتظر، وبقيت ثلة قليلة ما زالت تمسك على الجمر، ومعهم عامة الشعوب الإسلامية الذين لم يتأثروا بسطوة آلة الإعلام، ولم يرهبهم حكم الحديد والنار، أو يحملهم على التخلي عن قضية المسلمين الأولى والمركزية، وهي تحرير المسرى والأسرى، وعودة المهجرين والمنفيين.
ولعل حرب روسيا وأوكرانيا كشفت الغشاوة عن المغرَّر بهم والمخدوعين بقضية الحياد، التي أرادوا فرضها على أمتنا، وأصبح احتلال القدس الشريف يُسوَّق تحت شعار الصراع العربي الإسرائيلي، ثم “مشكلة فلسطين”، وتحت دعاوى: ما دَخْل البنغال والسنغال بالشأن الفلسطيني؟ ولماذا تغضب جاكرتا ونواكشوط من أجل غزة ورام الله؟
لكنهم مع أوكرانيا أعلنوا دعمها بالمال والسلاح، وفتحوا باب التطوع أمام الناس للمشاركة في الحرب، في الوقت الذي يراد فيه للأمة الإسلامية التخلي عن إخوة العقيدة، وللأمة العربية التخلي عن إخوة الدم والدين، في مقابل أمة تجمعت من شتات الأرض لاحتلال فلسطين، اجتمعوا من أعراق شتى ولغات مختلفة على حلم قيام إسرائيل، وحققوا شعار قتال الكافة، الذي أُمرنا به في سورة القتال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” (التوبة: 36).
علينا أن نتخذ من وقفة الغرب مع أوكرانيا ودعمها نموذجًا وحجة، ندحض بها شبه الشُّعُوبيين والمستغربين، وإذا كان الصهاينة قد تجمّعوا من أقطار الأرض كافة، فعلينا أن نواجههم كافة، فلماذا نتفرق على الحق، وقد اجتمعوا على الباطل؟!
فتوى المنع
وهذا يأخذنا إلى مناقشة فتوى منع زيارة القدس في ظل الاحتلال، التي خرجت في وقت كانت له مقتضياته وملابساته، والقاعدة أن الفتوى تتغير بتغير الحال، لا سيما ما بُني على الاجتهاد في تحقيق المصالح والنظر في المآل. والآن مع موجة التطبيع المجاني الذي ارتكست فيها بعض الدول، أصبحت زيارة القدس الشريف فقط للعرب المُطبّعين، والمسلمين المنبطحين، ومن بات تحت لحاف إسرائيل، بما يفت في عضد المقدسيين!
حيث لا يرون من أبناء أمتهم، إلا من ظهرت عمالتهم، في وقت هم في أمَسّ الحاجة فيه إلى المناصرة والمؤازرة، وهذا يؤكد أن المصلحة في تغيير الفتوى إلى وجوب زيارة القدس الشريف، لمن يملك لذلك سبيلًا، بل يتأكد الوجوب على الشعوب التي طبّعت أنظمتها مع المحتل، من باب التطهير والتكفير، وإحداث التوازن بين كفتي الخير والشر، كذلك من يحملون جنسيات أوربية فالأمر عليهم أهون، وإذا كان الاعتكاف في المساجد من السنن، فإن الاعتكاف في المسجد الأقصى من الواجبات، لأنه اعتكاف ورباط في سبيل الله.
لا بد أن يرى المحتل الأمة كلها في مواجهته في ساحات القدس وجنباته، وإلا فإننا نكرس -من حيث لا ندري- أن القدس قضية المقدسيين!
ولا عذر لمسلم في التأخر عن نجدة المسجد الأقصى، والسعي لتحرير المسرى المبارك، فإذا كان أهل فلسطين يجاهدون بأنفسهم، فأمامك باب المشاركة بمالك وقلمك ولسانك، وأضعف الإيمان أن تخصهم بدعاء السَّحَر، فإنه من سهام القدر.